بحث حول السيرة النبوية
صفحة 1 من اصل 1
بحث حول السيرة النبوية
مقدمة:
للسيرة النبوية العطرة نكهة خاصة وطعم مميز عند المشتغلين بالعلوم الشرعية. وما ذلك إلا لأنها تتعلق بأحب شخصية من البشر خلقها الله إلى قلوب المؤمنين، تعلقاً ذاتياً يمتزج فيه الخبر بالأمنية، ووحي السماء بأنباء الأرض، والحوادث البشرية بالمعجزات النبوية.
العرض:
السيرة والتاريخ:
ولقد كانت السيرة النبوية في الأصل جزءاً من علم التاريخ الأوسع، إلا أنها أفردت عنه بعلم خاص له موضوعه ومزاياه وكتبه. حتى أصبح علم السيرة ـ أو المغازي والسير كما سمي ابتداء ـ علماً مستقلاً تناول بالتفصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وشخصيته وصفاته الخُلقية والخِلْقية، وجميع تصرفاته الخاصة به كنبي يتلقى الوحي، ورسول يخاطب الناس، وداعية له طريقته المميزة الرائعة، ومرب اعتنى أشد العناية بأصحابه.
كما تناول علم السيرة أيضاً أخبار غزواته التي شارك فيها بنفسه، أو سراياه التي بعث بها أصحابه، والقبائل التي دخلت في حلفه أو آمنت به، أو تلك التي رغبت عنه وحاربته، وأخبار علاقاته بالأمم الأخرى والملوك الحاكمين من حوله.
ولشدة العلاقة وأكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه، فقد ألحقت أخبار الصحابة الكرام الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه بسيرته، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ منها.
أسباب الاهتمام الكبير بالسيرة النبوية:
وعلى امتداد السنين والحقب فقد حظيت السيرة النبوية بفنون من الاهتمام، وضروب من العناية يفوقان التصور والتخيل، وذلك لأسباب كثيرة منها.
1) أن السيرة النبوية ليست أخباراً تنقل للعلم فقط، كباقي أخبار التاريخ، بل هي وسيلة للاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، مصداق قوله سبحانه : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }.. فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين، وسيرته هي الصورة المثلى للحياة الإنسانية الراقية.
2) كذلك فالسيرة النبوية تعتبر وسيلة عمليه لفهم القرآن، وهي ترجمة حية له. ويكفي أن نستدل لذلك بقول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي أقرب الناس إليه ـ فقالت: (كان خلقه القرآن).
3) والسيرة النبوية العطرة إضافة إلى ما مر تقف بالقارئ على بداية الأحداث الكبرى التي غيرت وجه التاريخ فيما بعد، وأدت إلى سقوط دولتي الفرس والروم، وأدت إلى بروز الحضارة الإسلامية ودولها، وفجرت ينابيع الحكمة للخلق.
4) ولا ننسى أن للسيرة النبوية دوراً رائداً ومهماً في جمع الأمة الإسلامية، حيث إنها الجزء التاريخي المشترك بينها جميعا،ً على الرغم من اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها.
السيرة النبوية سجل حاشد:
لهذا كله كان للسيرة النبوية بين المسلمين اهتمام خاص... وخاص جداً ، دفعهم إلى تسجيل كل شاردة وواردة عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال من أحواله ، من حين ولادته ـ لا بل قبلها ـ إلى حين وفاته، يوماً فيوماً، وحدثاً فحدثا،ً ومكاناً فمكاناً. كل ذلك مع تدقيق وتمحيص واعتزاز وافتخار، إلى الحد الذي كانوا فيه ـ سلفاً صالحاً ـ يلقنون أبناءهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظونهم إياها، كما يلقنونهم القرآن ويحفظونهم إياه، واستمر على ذلك الخلف الصالح للمسلمين.
مقارنة بين سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وسير الأنبياء السابقين:
إن علم السيرة النبوية ينقل إلينا أصح صورة وأصدق سيرة من سير الأنبياء والمرسلين وغيرهم، ممن يهتم الناس بأخبارهم وأحوالهم.
ولو أنا جمعنا كل ما كتب عن عظماء العالم، وقارناه بما كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجحت كفة سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من جوانب عديدة، سواء من ناحية الكمية أو النوعية أو وسائل النقل و حياد الباحثين..
لقد نقل إلينا أكله وشربه، ونومه وقيامه، وكلامه وفعله، سره وعلنه، وتطهره وعبادته، ووصفه ومشاعره، وأقرباؤه وجيرانه، وصحته ومرضه، وغناه وفقره، وكل ما يتعلق به من جميع الجوانب، حتى أصبح متتبع السيرة يكاد ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً، ويدرك أدق تفاصيل حياته، لا يخفى عليه منها شيء على الرغم من البعد الزمني الكبير..
مثل هذا الأمر دفع أحد النقاد الغربيين إلى القول (إن محمداً ـ عليه السلام ـ هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس).. أي لا تخفى علينا من حياته خافيه.
بداية تدوين السيرة النبوية:
ولعل متأخري الصحابة كانوا أول من دوّن أشياء عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول المؤرخ المسلم فؤاد سيزكين ـ حيث يدلل على ذلك بما نقل عن سعيد بن عبادة الخزرجي من كتاب وصل إلى أوائل العصر العباسي، كما دوّن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري قطعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها عنه حفيده الذي كان أستاذاً للواقدي.
ومثل ذلك فعل سعيد بن المسيب وعبيد الله بن كعب والشعبي، الذين تلتهم طبقة من التابعين كانت أشهر منهم في تصانيف السيرة، أمثال عروة بن الزبير وأبان بن عثمان وابن شهاب الزهري، الذين تلتهم أيضاً طبقة كتبت في السيرة كتباً كاملة وصلت إلينا أصولها، مثل سيرة محمد بن اسحق التي نقلها ابن هشام في سيرته المطبوعة، ومثل المغازي للواقدي، والطبقات لابن سعد، وما كتبه الطبري في تاريخه، وما تابعه عليه ابن كثير في البداية والنهاية، وابن الأثير في الكامل في التاريخ.
أنواع كتب السيرة النبوية:
ونحن إذا تتبعنا كتب السيرة النبوية نجدها أنواعاً وأقساماً:
فهناك النوع الذي تخصص في السرد التاريخي لحياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ ولادته حتى وفاته، يسرد في خلال ذلك الأحداث متسلسلة تسلسلاً زمنياً. وهذا النوع هو الأشهر والأكثر في كتب السيرة الذي مثاله مما بين أيدينا (السيرة النبوية) لابن هشام، وكتاب (إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون) المسماة بالسيرة الحلبية لعلي بن إبراهيم الحلبي، و(السيرة النبوية) لابن كثير ـ وهي جزء من تاريخه.
وهناك نوع من كتب السيرة اهتم بالأوصاف الخلقية والخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يسمى بكتب الشمائل المحمدية، مثل كتاب (الشمائل) للترمذي، و(المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) للقسطلاني ومختصره (الأنوار المحمدية) للشيخ يوسف النبهاني.
وهناك نوع من كتب السيرة النبوية اهتم بالدلائل الشاهدة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ادعائه النبوة، مثل كتاب (دلائل النبوة) للبيهقي، و(دلائل النبوة) لأبي نعيم الأصبهاني و(دلائل النبوة) للماوردي.
وهناك كتب من كتب السيرة ضمت أخبار الصحابة الكرام حتى وفاتهم، إضافة إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، أي إنها اعتبرت السيرة النبوية ممتدة في جيل الصحابة حتى نهايته، ومن هذه الكتب الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلاني، و(أسد الغابة) لابن الأثير الجزري و(الطبقات الكبرى) لابن سعد.
وهناك كتب في السيرة النبوية تناولت حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته، أو خصائصه التي تميز بها عن غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض، و(كتاب الخصائص الكبرى) للسيوطي.
الخاتمة
- وفي الاخير ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها مجرد الوقوف علي الوقائع التاريخية ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث, ولذا فلا ينبغي أن نعتبر دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسة التاريخية شأنها شأن الاطلاع علي سيرة خليفة من الخلفاء أو عهد من العهود التاريخية الغابرة وإنما الغرض منها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته صلي الله عليه وسلم بعد أن فهمها مبادئا وقواعدا وأحكاما مجردة في الذهن أي أن دراسة السيرة النبوية ليست سوي عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة في مثلها الأعلي محمد صلي الله عليه وسلم وإذا أردنا أن نجزئ هذا الغرض ونصنف أجزاءه, فإن من الممكن حصرها في الأهداف التفصيلية التالية :
1- فهم شخصية الرسول صلي الله عليه وسلم (النبوية ) من خلال حياته وظروفه التي عاش فيها للتأكد من ان محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن عبقريا سمت به عبقريته بين قومه ولكنه قبل ذلك رسول أيده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه.
2- أن يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلي في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه. ولا ريب أن الإنسان مهما بحث عن مثل أعلي في ناحية من نواحي الحياة, فإنه واجد كل ذلك في حياة الرسول صلي الله عليه وسلم علي أعظم ما يكون من الوضوح والكمال, ولذا جعله الله قدوة للإنسانية بأسرها إذ قال ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ).
3- أن يجد الإنسان في دراسة سيرته عليه الصلاة والسلام ما يعنيه علي فهم كتاب الله تعالي وتذوق روحه ومقاصده إذ أن كثيرا من آيات القرآن إنما تفسرها وتجليها الأحداث التي مرت برسول الله صلي الله عليه وسلم و مواقفه منها.
4-أن يتجمع لدي المسلم من خلال دراسة سيرته صلي الله عليه وسلم أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصحيحة سواء ما كان منها متعلقا بالعقيدة أو الأحكام أو الأخلاق إذ لا ريب في أن حياته عليه الصلاة والسلام إنما هي صورة مجسدة نيرة لمجموع مبادئ الإسلام وأحكامه.
5- أن يكون لدي المعلم والداعية الإسلامي نموذج حي عن طرق التربية والتعليم فلقد كان محمدا صلي الله عليه وسلم معلما ناضجا ومربيا فاضلا لم يأل جهدا في تلمس أجدي الطرق الصالحة في التربية والتعليم خلال مختلف فترات دعوته, وإن من أهم ما يجعل سيرته صلي الله عليه وسلم وافية بتحقيق هذه الأهداف كلها أن حياته عليه الصلاة والسلام شاملة لكل النواحي الانسانية والاجتماعية التي توجد في الإنسان من حيث أنه فرد مستقل بذاته, أو من حيث أنه عضو فعال في المجتمع. فحياته عليه الصلاة والسلام تقدم إلينا نموذج سام للشاب المستقيم في سلوكه الأمين مع قومه وأصحابه كما تقدم النموذج الرائع للإنسان الداعي إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة, الباذل منتهي الطاقة في سبيل إبلاغ رسالته, ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة, وللزوج المثالي في حسن معاملته, وللأب في حنو عاطفته مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد, وللقائد الحربي الماهر, والسياسي الصادق المحنك, وللمسلم الجامع في دقة وعدل بين واجب التعبد والتبتل لربه والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه.
للسيرة النبوية العطرة نكهة خاصة وطعم مميز عند المشتغلين بالعلوم الشرعية. وما ذلك إلا لأنها تتعلق بأحب شخصية من البشر خلقها الله إلى قلوب المؤمنين، تعلقاً ذاتياً يمتزج فيه الخبر بالأمنية، ووحي السماء بأنباء الأرض، والحوادث البشرية بالمعجزات النبوية.
العرض:
السيرة والتاريخ:
ولقد كانت السيرة النبوية في الأصل جزءاً من علم التاريخ الأوسع، إلا أنها أفردت عنه بعلم خاص له موضوعه ومزاياه وكتبه. حتى أصبح علم السيرة ـ أو المغازي والسير كما سمي ابتداء ـ علماً مستقلاً تناول بالتفصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وشخصيته وصفاته الخُلقية والخِلْقية، وجميع تصرفاته الخاصة به كنبي يتلقى الوحي، ورسول يخاطب الناس، وداعية له طريقته المميزة الرائعة، ومرب اعتنى أشد العناية بأصحابه.
كما تناول علم السيرة أيضاً أخبار غزواته التي شارك فيها بنفسه، أو سراياه التي بعث بها أصحابه، والقبائل التي دخلت في حلفه أو آمنت به، أو تلك التي رغبت عنه وحاربته، وأخبار علاقاته بالأمم الأخرى والملوك الحاكمين من حوله.
ولشدة العلاقة وأكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه، فقد ألحقت أخبار الصحابة الكرام الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه بسيرته، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ منها.
أسباب الاهتمام الكبير بالسيرة النبوية:
وعلى امتداد السنين والحقب فقد حظيت السيرة النبوية بفنون من الاهتمام، وضروب من العناية يفوقان التصور والتخيل، وذلك لأسباب كثيرة منها.
1) أن السيرة النبوية ليست أخباراً تنقل للعلم فقط، كباقي أخبار التاريخ، بل هي وسيلة للاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، مصداق قوله سبحانه : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }.. فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين، وسيرته هي الصورة المثلى للحياة الإنسانية الراقية.
2) كذلك فالسيرة النبوية تعتبر وسيلة عمليه لفهم القرآن، وهي ترجمة حية له. ويكفي أن نستدل لذلك بقول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي أقرب الناس إليه ـ فقالت: (كان خلقه القرآن).
3) والسيرة النبوية العطرة إضافة إلى ما مر تقف بالقارئ على بداية الأحداث الكبرى التي غيرت وجه التاريخ فيما بعد، وأدت إلى سقوط دولتي الفرس والروم، وأدت إلى بروز الحضارة الإسلامية ودولها، وفجرت ينابيع الحكمة للخلق.
4) ولا ننسى أن للسيرة النبوية دوراً رائداً ومهماً في جمع الأمة الإسلامية، حيث إنها الجزء التاريخي المشترك بينها جميعا،ً على الرغم من اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها.
السيرة النبوية سجل حاشد:
لهذا كله كان للسيرة النبوية بين المسلمين اهتمام خاص... وخاص جداً ، دفعهم إلى تسجيل كل شاردة وواردة عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال من أحواله ، من حين ولادته ـ لا بل قبلها ـ إلى حين وفاته، يوماً فيوماً، وحدثاً فحدثا،ً ومكاناً فمكاناً. كل ذلك مع تدقيق وتمحيص واعتزاز وافتخار، إلى الحد الذي كانوا فيه ـ سلفاً صالحاً ـ يلقنون أبناءهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظونهم إياها، كما يلقنونهم القرآن ويحفظونهم إياه، واستمر على ذلك الخلف الصالح للمسلمين.
مقارنة بين سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وسير الأنبياء السابقين:
إن علم السيرة النبوية ينقل إلينا أصح صورة وأصدق سيرة من سير الأنبياء والمرسلين وغيرهم، ممن يهتم الناس بأخبارهم وأحوالهم.
ولو أنا جمعنا كل ما كتب عن عظماء العالم، وقارناه بما كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجحت كفة سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من جوانب عديدة، سواء من ناحية الكمية أو النوعية أو وسائل النقل و حياد الباحثين..
لقد نقل إلينا أكله وشربه، ونومه وقيامه، وكلامه وفعله، سره وعلنه، وتطهره وعبادته، ووصفه ومشاعره، وأقرباؤه وجيرانه، وصحته ومرضه، وغناه وفقره، وكل ما يتعلق به من جميع الجوانب، حتى أصبح متتبع السيرة يكاد ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً، ويدرك أدق تفاصيل حياته، لا يخفى عليه منها شيء على الرغم من البعد الزمني الكبير..
مثل هذا الأمر دفع أحد النقاد الغربيين إلى القول (إن محمداً ـ عليه السلام ـ هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس).. أي لا تخفى علينا من حياته خافيه.
بداية تدوين السيرة النبوية:
ولعل متأخري الصحابة كانوا أول من دوّن أشياء عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول المؤرخ المسلم فؤاد سيزكين ـ حيث يدلل على ذلك بما نقل عن سعيد بن عبادة الخزرجي من كتاب وصل إلى أوائل العصر العباسي، كما دوّن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري قطعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها عنه حفيده الذي كان أستاذاً للواقدي.
ومثل ذلك فعل سعيد بن المسيب وعبيد الله بن كعب والشعبي، الذين تلتهم طبقة من التابعين كانت أشهر منهم في تصانيف السيرة، أمثال عروة بن الزبير وأبان بن عثمان وابن شهاب الزهري، الذين تلتهم أيضاً طبقة كتبت في السيرة كتباً كاملة وصلت إلينا أصولها، مثل سيرة محمد بن اسحق التي نقلها ابن هشام في سيرته المطبوعة، ومثل المغازي للواقدي، والطبقات لابن سعد، وما كتبه الطبري في تاريخه، وما تابعه عليه ابن كثير في البداية والنهاية، وابن الأثير في الكامل في التاريخ.
أنواع كتب السيرة النبوية:
ونحن إذا تتبعنا كتب السيرة النبوية نجدها أنواعاً وأقساماً:
فهناك النوع الذي تخصص في السرد التاريخي لحياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ ولادته حتى وفاته، يسرد في خلال ذلك الأحداث متسلسلة تسلسلاً زمنياً. وهذا النوع هو الأشهر والأكثر في كتب السيرة الذي مثاله مما بين أيدينا (السيرة النبوية) لابن هشام، وكتاب (إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون) المسماة بالسيرة الحلبية لعلي بن إبراهيم الحلبي، و(السيرة النبوية) لابن كثير ـ وهي جزء من تاريخه.
وهناك نوع من كتب السيرة اهتم بالأوصاف الخلقية والخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يسمى بكتب الشمائل المحمدية، مثل كتاب (الشمائل) للترمذي، و(المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) للقسطلاني ومختصره (الأنوار المحمدية) للشيخ يوسف النبهاني.
وهناك نوع من كتب السيرة النبوية اهتم بالدلائل الشاهدة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ادعائه النبوة، مثل كتاب (دلائل النبوة) للبيهقي، و(دلائل النبوة) لأبي نعيم الأصبهاني و(دلائل النبوة) للماوردي.
وهناك كتب من كتب السيرة ضمت أخبار الصحابة الكرام حتى وفاتهم، إضافة إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، أي إنها اعتبرت السيرة النبوية ممتدة في جيل الصحابة حتى نهايته، ومن هذه الكتب الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلاني، و(أسد الغابة) لابن الأثير الجزري و(الطبقات الكبرى) لابن سعد.
وهناك كتب في السيرة النبوية تناولت حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته، أو خصائصه التي تميز بها عن غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض، و(كتاب الخصائص الكبرى) للسيوطي.
الخاتمة
- وفي الاخير ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها مجرد الوقوف علي الوقائع التاريخية ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث, ولذا فلا ينبغي أن نعتبر دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسة التاريخية شأنها شأن الاطلاع علي سيرة خليفة من الخلفاء أو عهد من العهود التاريخية الغابرة وإنما الغرض منها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته صلي الله عليه وسلم بعد أن فهمها مبادئا وقواعدا وأحكاما مجردة في الذهن أي أن دراسة السيرة النبوية ليست سوي عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة في مثلها الأعلي محمد صلي الله عليه وسلم وإذا أردنا أن نجزئ هذا الغرض ونصنف أجزاءه, فإن من الممكن حصرها في الأهداف التفصيلية التالية :
1- فهم شخصية الرسول صلي الله عليه وسلم (النبوية ) من خلال حياته وظروفه التي عاش فيها للتأكد من ان محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن عبقريا سمت به عبقريته بين قومه ولكنه قبل ذلك رسول أيده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه.
2- أن يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلي في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه. ولا ريب أن الإنسان مهما بحث عن مثل أعلي في ناحية من نواحي الحياة, فإنه واجد كل ذلك في حياة الرسول صلي الله عليه وسلم علي أعظم ما يكون من الوضوح والكمال, ولذا جعله الله قدوة للإنسانية بأسرها إذ قال ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ).
3- أن يجد الإنسان في دراسة سيرته عليه الصلاة والسلام ما يعنيه علي فهم كتاب الله تعالي وتذوق روحه ومقاصده إذ أن كثيرا من آيات القرآن إنما تفسرها وتجليها الأحداث التي مرت برسول الله صلي الله عليه وسلم و مواقفه منها.
4-أن يتجمع لدي المسلم من خلال دراسة سيرته صلي الله عليه وسلم أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصحيحة سواء ما كان منها متعلقا بالعقيدة أو الأحكام أو الأخلاق إذ لا ريب في أن حياته عليه الصلاة والسلام إنما هي صورة مجسدة نيرة لمجموع مبادئ الإسلام وأحكامه.
5- أن يكون لدي المعلم والداعية الإسلامي نموذج حي عن طرق التربية والتعليم فلقد كان محمدا صلي الله عليه وسلم معلما ناضجا ومربيا فاضلا لم يأل جهدا في تلمس أجدي الطرق الصالحة في التربية والتعليم خلال مختلف فترات دعوته, وإن من أهم ما يجعل سيرته صلي الله عليه وسلم وافية بتحقيق هذه الأهداف كلها أن حياته عليه الصلاة والسلام شاملة لكل النواحي الانسانية والاجتماعية التي توجد في الإنسان من حيث أنه فرد مستقل بذاته, أو من حيث أنه عضو فعال في المجتمع. فحياته عليه الصلاة والسلام تقدم إلينا نموذج سام للشاب المستقيم في سلوكه الأمين مع قومه وأصحابه كما تقدم النموذج الرائع للإنسان الداعي إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة, الباذل منتهي الطاقة في سبيل إبلاغ رسالته, ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة, وللزوج المثالي في حسن معاملته, وللأب في حنو عاطفته مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد, وللقائد الحربي الماهر, والسياسي الصادق المحنك, وللمسلم الجامع في دقة وعدل بين واجب التعبد والتبتل لربه والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه.
berafaaelhabib- مشرف عام
-
عدد المساهمات : 314
تاريخ التسجيل : 20/10/2011
العمر : 30
بطاقة الشخصية
العب معنا: 5
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى