أركان الإسلام الجزء الأول
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
أركان الإسلام الجزء الأول
أركان الإسلام الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن الله عز وجل سمى هذا الدين الذي أرسل به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة دين الإسلام، وختم به الديانات السابقة، وجعله الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، فكل ما سواه من الأديان بعد نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم به مردود على أصحابه، لا يتقبل الله منه شيئا، وإن الله عز وجل لم يرض للبرية إلا هذا الدين، وإنما جعل الأديان السابقة له إعدادا له فقط، لأن البشرية خلقها الله تعالى متدرجة، فلم تصل إلى نضجها ولم تكتمل أطوار حياتها إلى في الطور الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فما زالت البشرية تتقدم في أطوار حياتها كتقدم الصبي في نماء بدنه وعقله وتطور معارفه، وهو يحتاج في كل طور إلى ملابس جديدة تتناسب مع حجمه، وإلى تغذية تتناسب مع واقعه وصحته، وكذلك هذا الدين، فإن الله كان ينزل منه في كل فترة ما يتناسب مع الطور الذي تمر به البشرية، ويعلم نهاية ذلك الطور وأن ذلك الدين لا يصلح لما بعد ذلك الطور، فإذا انتهى ذلك الطور نسخ الله تلك الشريعة وأتى بشريعة جديدة تطور سابقتها أو تنسخها وتلغي أكثر أحكامها، ومن هنا فإن الشرائع السابقة تنقسم إلى قسمين، إلى شريعة مطورة أي مكملة لسابقتها، مبيحة لبعض ما حرمته ومحرمة لبعض ما أحلته، كشريعة عيسى مع شريعة موسى، أو إلى شريعة جديدة ناسخة لسابقتها بالكلية، كشريعة موسى مع شرائع من قبله من الرسل.
وإن رسل بني إسرائيل إنما كانت شرائعهم مجددة لشريعة موسى، ولهذا قال الله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: {ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها ناسخة لكل ما سبق، ولهذا قال الله تعالى: {ومهيمنا عليه} وقال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} فما سواه من الأديان ليس دينا كاملا مستقرا عند الله عز وجل وإنما هو دين آني مؤقت بفترة محددة لا يتعداها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا الفترة التي بعث فيها فيما أخرج عنه مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة طويلة: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب)، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل كما جاء ذلك مرتين في سورة المائدة، وأخبر أنه بعث في الأميين في الجاهلية في فترة الرسل واقتراب الساعة وجهالة الناس فجاء بهذه الحنيفية السمحة التي هي الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، والتي لا يقبل الله من أحد وصلت إليه سواها من الدين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار».
فارتضى الله تعالى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون إماما للبشرية، وارتضى هذا الدين الذي جاء به للبشرية بحذافيرها فهو صالح لكل زمان ومكان، ومشروط على الناس أن يأخذوا به ويتبعوه، وإن كثيرا من الناس يغلط في تصور هذا الدين، وذلك لقصور نظره فيرى جانبا واحدا منه فيقوم هذا الدين على أساسه.
فمثلا تسمع كثيرا من الناس يقارن الإسلام بالأيديولوجيات الفكرية، فيقارن الفكر الإسلامي أو الدين الإسلامي بالفكرة الرأسمالية والفكرة الشيوعية، ويقول: هو متوسط بين الفكرتين فالفكرة الرأسمالية تراعي حقوق الفرد ولا تراعي حقوق الأمم، والفكرة الشيوعية تراعي حقوق الأمم ولا تراعي حقوق الأفراد، والإسلام يراعي حقوق الجميع، لكن الواقع أن هذه النظرة قاصرة لأنها ما نظرت إلا إلى جانب واحد من الإسلام وهو المجال الفكري في العدالة الاجتماعية بين الناس فقط، وكذلك تسمع آخرين يقارنونه بالقوانين الوضعية، وهذا قصور في التصور أيضا، فما نظروا إلا إلى الجانب المنظم لعلاقات الناس فيما بينهم، والواقع أن الإسلام أعم وأشمل من هذا، فهو نظام شامل لكل أمور الحياة، فالقانون مثلا لا يهتم بأخلاق الناس ولا يهتم بتنظيم معاملاتهم مع ربهم الذي خلقهم وسواهم، وأنتم تعلمون أن هذه الأمور من أهم شرائع الإسلام وقد جاء فيها كثير من نصوصه، ووضع فيها كثير من قواعده، ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس دينا من الأرض، ليس نابعا عن قصور في التصور، وليس ناشئا عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئا كذلك عن عقول قاصرة وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير، الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان، الجانب الأول منه ما ينظم اعتقادهم ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم، وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى، وكذلك الجانب الثاني في التعامل مع الله وهو جانب العبادة مع الله التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف، لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، وقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}، ومن هنا فلا يمكن أن يتقرب إليه إلا بما شرع، لا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلا من عند الله، لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعا أو يرفع عنه ضررا، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ما جاء، وكذلك كان من الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم وهو نوعان، النوع الأول ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بحسن الصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق، وسيأتي بعض تفصيلها إن شاء الله تعالى في درس آخر تحت عنوان الإحسان إن شاء الله تعالى، أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعا واضحا مبينا للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعا مترابطا، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرؤون في سورة الحجرات ثلاثة عشر سببا من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي، أول هذه الأسباب التعدي على الصلاحيات وهو المذكور في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}، كذلك السبب الثاني عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضا مأخوذ من هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: {إن جاءكم فاسق بنبإ}، ثم بعده: عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: {فتبينوا}، وفي القراءة السبعية الأخرى فتثبتوا، ثم بعده الظلم وهو المذكور في قوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن}، ثم بعد ذلك ظن السوء والتنابز بالألقاب والنميمة وأكل الغيبة، وهذه كلها هي المذكورة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه}، ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية، واتصلت عراها وهي قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادرا على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطا يحتاج بعض أفراده إلى بعض، ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط ولهذا قال الله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون}، وقال تعلى: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون}، فوزع بينهم الأرزاق توزيعا عجيبا، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم، لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجها صحيحا لأخذها وهو محتاج إليها، فإن كان قويا لا بد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفا سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك، ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، لا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي ترونه مستشريا في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان، لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله، لكن عندما يترك الناس هذا النظام ظهريا ويعدلوا به ما سواه فلا بد أن يتردوا في أوحال الرذيلة ولا بد أن يظلم بعضهم بعضا، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله سبحانه وتعالى على الناس كما قال سبحانه وتعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}، فشرع الله تعالى البيوع التي يقع بها التبادل بين الناس، فالضعيف إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، والقوي إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، ومن كان لديه ما لا يحتاج إليه ورأى ما يحتاج إليه عند غيره أمكنهما التبادل فيما بينهما، بكل عدالة ونزاهة، وأن يعلموا أن ذلك إنما القصد به الوصول إلى الرفاه والوصول إلى إشباع رغباتهم الدنيوية في هذه الحياة الدنيا، والتوصل إلى مرضاة الله في الدار الآخرة، وليس المقصود به حرمان قوم من هذا المعاش الذي جعله الله في الأرض، فما فيها من الأرزاق كاف لمن فيها من البشرية، لا يخلق الله من خلق يضيعه، فالرزق الذي خلق الله في هذه الأرض كاف لأهلها، ففيها من الخيرات وأنواع المعادن وأنواع الزراعات وأنواع الثمار والأشجار ما يكفي أهلها، وفيها من المياه ما لا ينقضي إلا بموت أهلها، ومن هنا فإنها تكفي الأحياء والأموات كما قال تعالى: {كفاتا أحياء وأمواتا} فالأموات تكفتهم في بطنها والأحياء تحملهم في ظهرها، وقد دحاها الله سبحانه وتعالى لذلك ووزع فيها أنواع الخيرات، ومن هنا لو استغلت هذه الخيرات استغلالا صحيحا لكفت البشرية وقامت بحقوقها كلها، وقد أمرنا الله تعالى باستعمارها واستغلالها والمشي في مناكبها، وأن نبتغي من فضل الله تعالى في ذلك، ولو اتبعت هذه الخطى التي حددها الشارع سبحانه وتعالى لحصل العدل وارتفع العسف والظلم بين الناس، ونال كل أحد منهم حقوقه وما يستحقه في هذه الأرض، ومن هنا شرعت العقود التي تقضي على أنواع هذه الخدائع وأنواع الظلم والعسف مطلقا، فجعل البيع بديلا للربا، وجعل النكاح بديلا للسفاح، وجعل الدين كذلك بالتي هي أحسن بديلا للاسترقاق والظلم، ومن هنا جعل لكل وجه من أوجه الفساد بديل يناسب حال المجتمع ويلائم احتياجاته ويسد عوزه، وهذا من حكمة الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، ثم إن من هذا الدين ما يردع أهل الفساد إذا استشرى وحصل وهو ما يسمى بالحدود والتعزيرات، فإنها تزجر الواقعين في هذه المعاصي وهذه القاذورات عما وقعوا فيه، وتكفر عمن تاب وأحسن فيما بعدها، وهذه الفواحش التي رتب الله تعالى عليها هذه الحدود مضرة بأهل الأرض إضرارا شاملا كاملا لا يختص بالمتعاطين لها أو بالقائمين عليها فقط، ومن أجل هذا جعلت حدودها رادعة، فمنها ما حده القتل، ومنها ما حده الرجم بالحجارة إلى الموت، ومنها ما حده قطع اليد ومنها ما حده الجلد، فهذه الحدود لا يقصد بها التشفي من شخص واحد وإنما يقصد بها علاج مجتمع بكامله، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتا، من أن يمطروا سبتا معناه أن ينزل عليهم المطر أسبوعا كاملا، فهذه الحدود تردع الفساد وترده وتقوم أخلاق الناس وترد جماح الجامح منهم، وتعالج مرض المريض منهم، فهي علاج رادع لشيطان الإنسان الذي يستزله في هذه المحرمات ويوقعه في هذه الفواحش، وكذلك التعزيرات التي وكلها الله إلى اجتهاد الحكام المؤمنين القائمين بالعدل هي كذلك رادعة عن تلك الذنوب التي هي دون الأولى، فلا تصل إلى حد الحدود وإنما هي دونها وأقل منها، وكذلك الكفارات التي تكفر المعاصي التي يقع فيها الإنسان وتعالج ما يجده الإنسان من الانكسار في نفسه، فإن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، ومن فرط في جنب الله تعالى فأقام الله عليه الحجة وتذكر ماضيه، وما فرط فيه في جنب الله وأنه قد أسرف كثيرا فيما مضى من زمانه وهو مقدم على الله وما يدري حاله ولا يدري كيف يجيب إذا عرض على الباري سبحانه وتعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون}، سينكسر قلبه ويتأثر نفسيا تأثرا شديدا بالذنوب التي أسرف فيها على نفسه فيما مضى من عمره، لكن الله شرع له الكفارات التي تكفر هذه الذنوب وتطمس أثرها، وأهم هذه الكفارات إتباع الحسنة للسيئة وأن يعمل الإنسان من الحسنات أكثر مما عمل من السيئات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن، وكذلك من هذه الكفارات اجتناب الكبائر، فإنما وقع فيه الإنسان بعد ذلك من الصغائر يكفره اجتناب الكبائر كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما، وكذلك من هذه المكفرات الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى والشهادة في سبيله وكذلك التضحية في سبيله بما يستطيعه الإنسان، ومنها الكفارات المخصوصة بأمور محددة ككفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الإفطار في نهار رمضان، وكفارة اليمين وغير ذلك من الكفارات المبينة شرعا، فهي جوابر وزواجر تزجر الإنسان عن العود إلى ما فرط فيه في جنب الله وتجبر له ما وقع فيه من الخطإ والتقصير، والإنسان محتاج إلى ذلك أشد الحاجة، ثم من هذه الجوانب كذلك التي شرعها الله تعالى في الإسلام وبينها للناس الجانب القضائي الذي يفصل المشكلات عند حصولها، ويعالجها علاجا وقائيا قبل حصولها بالصلح والتراضي وإصلاح ذات البين، وهذا الجانب أيضا من جوانب الإسلام المهمة التي لا يستغني عنها الناس وعندما تركوها وقصروا فيها وتركوا التحاكم إلى دين الله سبحانه وتعالى اشتهر فيهم ما ترون من الظلم والانحراف والبغي في القضاء، وقد حكم الله تعالى في كتابه بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، وأقسم على نفي الإيمان عنهم في كتابه فقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، إن جوانب الإسلام ومجالات تشريعه كثيرة جدا، لا يمكن أن نتعرض لها في مثل هذه العجالة، ولكننا سنصل إلى مستويين من هذه الجوانب، المستوى الأول هو المستوى الإيجابي، والمستوى الثاني هو المستوى السلبي، أما المستوى الإيجابي فمعناه الفرائض التي هي الدعائم والأركان التي عليها بني دين الإسلام، والمستوى السلبي هي كبائر الإثم والفواحش التي حرمها الإسلام، فإذا تصور الإنسان ما أوجبه الإسلام من الدعائم الأصول وما حرمه من الكبائر والفواحش تصور هذا الدين بكامله، وعرف أنه منتم لهذا الدين أو غير منتم له، ولا يمكن أن يحقق الإنسان انتماءه لهذا الدين واعتزازه به إلا إذا أتى بأركانه الإيجابية واجتنب نواهيه الكبرى السلبية، ومن لم يفعل ذلك لم يذق لهذا الدين طعما، ولم يعلم أن له حلاوة، ومن هنا فإن كثيرا من الناس إنما ينتسبون إلى هذا الدين بسبب الدار والتربية فقط، لكنهم لا يذوقون عزة الإسلام ولا يشعرون بذلك ولا يحسون بالحقوق التي يرتبها الإسلام عليهم، لا شك أن الإنسان عندما تثور نفسه ويغضب غضبا شديدا إذا تذكر أنه مسلم وتذكر معنى ذلك ومعناه الاستسلام لله سبحانه وتعالى في أحكامه، ستسكن نفسه ويذهب غضبه ويعرف أنه محكوم بإطار قوي هو دين الإسلام وهذا الإطار عليه أن يخاف أن يخرج منه في كل اللحظات، وكذلك إذا جمحت به شهوته وشيطانه إلى الوقوع في الشهوات وكان مسلما حقا ذائقا لحلاوة الإيمان وجد ذلك الوازع الديني القوي في نفسه يحول بينه وبين معصية الله، فيجد جدارا قويا يقف في وجهه ويقطع عليه مسيرة شهوته ويرده إلى الإسلام فيتذكر هاذم اللذات الموت، يتذكر العرض على الله سبحانه وتعالى، يتذكر حاله وهو محمول على النعش فوق الرقاب إلى الدار الآخرة، ومن هنا لا شك أنه سيرجع ويعود من حيث بدأ فيتوب إلى الله تعالى ويتلافى ما مضى، فيكون من الذين اتقوا كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}.
إن التزام الإنسان بهذه الأوامر واجتنابه لهذه النواهي يجعله صاحب عزة بالله سبحانه وتعالى لأنه من أهل الله، يشعر بانتمائه إلى الله سبحانه وتعالى واتصاله به، وإن الإنسان إذا اتصل، بديان السماوات والأرض الملك الجبار الذي يقبض السماوات السبع والأرضين السبع بيمينه يوم القيامة فيهزهن فيقول: أين الجبارون أين المتكبرون، إن من اتصل بهذا الملك الديان، لا يمكن أن يذل ويخضع لمن سواه، إن من عرف الله تعالى حق المعرفة لا يمكن أن يركع لمن سواه ولا أن يسجد له ولا أن يخافه طرفة عين، كيف تخاف مملوكا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأنت تعرف الملك الديان ديان السماوات والأرض {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}، لكن السبب فيما نراه من نقص الإيمان وترديه هو عدم الصلة به سبحانه وتعالى وعدم معرفته، إن كثيرا من الناس يبحث عن معرفة الله تعالى من غير الوجه الصحيح، إن معرفته إنما تكون بالتقرب إليه بما شرع، إذا طلبت معرفته بغير ذلك طلبت معرفته بعقلك القاصر، أو طلبت معرفته بعاطفتك غير المربوطة بأوامر الله تعالى ونواهيه، أو طلبت معرفته بالأمثلة الدنيوية، أو طلبت معرفته بالفلسفات الشرقية أو الغربية فقد ضللت عن سواء الصراط ولم تعرف الله تعالى، إنما تعرف الله تعالى إذا امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه ووقفت عند حدوده، وحينئذ لا يمكن أن تضل سواء السبيل، بل هذا هو الطريق المضمون الذي لا يضل من سلكه أبدا، وهو الحبل القويم الذي من تمسك به عصم، ومن هنا فإن اعتزازك بانتمائك للإسلام لا ينبغي أن يكون نابعا عن أنه من تراثك وتراث آبائك وأجدادك، وإنما تعتز به لأنه علاقتك بربك وصلتك بديان السماوات والأرض، إن هذا الاعتزاز بهذا الدين لا يذوقه المعرضون عنه والمتهافتون على الدنيا، والذين يبيعون آخرتهم بأعراض دنيوية، إنهم لا يمكن أن يذوقوا حلاوة هذا الإيمان، ولا يمكن أن يذوقوا هذه العزة التي حكم الله بها لله ولرسوله وللمؤمنين، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
إن انتماءك لدين الله تعالى ينبغي أن يكون نابعا من محبتك لهذا الدين وتضحيتك في سبيله، وإنك لن تضحي في سبيل هذا الدين إلا إذا أحببته ودخل في كيانك وجعلته مقدما على انتماءاتك وولاءاتك المختلفة، ومن هنا فإن تصور المنافقين للدين كان تصورا خاطئا، فقدموا عليه انتماءاتهم وولاءاتهم واعتزازهم بأمور الدنيا فقالوا: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}، فرد الله عليهم بقول: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون}، إن كثيرا من الناس اليوم يفهم هذا الدين فهم المنافقين، يفهم الإسلام من الزاوية التي فهمه منها المنافقون، فلا نجده منتميا إليه تمام الانتماء، ولا نجده يشعر بمسؤوليته عنه، ولا نجده ساعيا في إعزازه وإعلائه ولا نجده باذلا في سبيل ظهوره على الدين كله ولو كره المشركون وسبب ذلك نقص إيمانهم وجهالتهم بهذا الدين، وأنهم أخذوه تراثا ولم يأخذوه تطبيقا ولم يأخذوه علاقة بالله ولم يأخذوه صلة به، إذا درسوا الإسلام درسوه فقها مجردا عن العمل مجردا عن الوازع الديني مجردا عن القناعة مجردا عن التقوى التي هي تقوى القلب، وهذا خطأ في التصور، وكثير من الناس يظن أن هذا الخطأ راجع للفقهاء رحمهم الله الذين دونوا المسائل الفقهية مجردة عن الترغيب والترهيب، لكن هذا أيضا خطأ في التصور، فالفقهاء إنما هم مؤلفون وضعوا مناهج لمدارس، وهذه المناهج لا بد أن تتكامل، فلا يمكن أن يكون الإنسان فقيها لم يدرس ما سوى الفقه، فالفقه علم يحتاج إلى ما سواه من العلوم والعلوم الشرعية مترابطة، فمن لم يدرس الترغيب والترهيب لا ينفعه ما يدرسه من الأحكام الفقهية المجردة، ومن لم يدرس مشاهد القيامة وأحوالها لا يمكن أن يهتم بتفاريع الفقه ورغائبه ونوافله، ولا يمكن أن يتأثر بذلك قلبيا ولا أن يستفيد منه، ومن هنا فإن من دعائم الإسلام التي سنذكرها الصلاة، والصلاة بين الله سبحانه وتعالى حكمتها بقوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} وإن كثيرا من الناس يدرسون الفروع الواردة في الصلاة واجبات وسننا ومندوبات ويحاولون تطبيقها، لكنها لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، والسبب في ذلك أنهم ما درسوا ترغيبها وترهيبها، وما لامست قلوبهم ولا ذاقوا لها طعما ولا أحسوا بلذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، ولا ذاقوا لذة المذلة بين يديه وتعفير الوجه له سبحانه وتعالى لكبريائه وجلاله، وما ذاقوا كذلك رفع حوائجهم إليه كفاحا دون ترجمان وتعلق القلب به ومسألته مباشرة دون المذلة لغيره، وهذه حلاوة لا تعدلها حلاوة، عندما تنقطع أسباب الشخص من الدنيا ويقبل على ديان السماوات والأرض وحده، وينوط به جميع حوائجه، وينصرف بقلبه بالكلية عمن سواه وينقطع عنه ويكون حرا من كل الأغيار عبدا عبودية حقيقية لله سبحانه وتعالى سيذوق طعما لا يمكن أن يذاق له نظير، ومن هنا فإن التصور الصحيح للإسلام أن يدرس بحذافيره، وأن يؤخذ بأطرافه، وأن لا يتخصص في تخصص واحد من تخصصاته، فمن أخذ أيضا بالرقائق وحدها دون التطبيقات لا بد أن يضل سواء السبيل لأنه لا يمكن أن يعرف فرائض الله تعالى والسنن التي شرعها رسوله صلى الله عليه وسلم والنوافل والمندوبات التي أمر بها وحض عليها من تلقاء رقائقه، ومن تلقاء عاطفته الجياشة وحماسه المستمر، لا يمكن أن يعرف هذا إلا بالفقه بالأحكام والتضلع في معرفة الحلال والحرام، ومن هنا كان لا بد للإنسان من الجمع بين جوانب الإسلام المختلفة، وكل هذا يشمله هذا العنوان الكبير الذي هو الإسلام، وكثير من الناس إذا سمع حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان) ظن أن الإسلام محصور في هذه الدعائم، وهذا خطأ في التصور، هل تتصورون أن المسجد محصور في الدعائم الأربع التي هي أركانه لا يمكن أن يتصور هذا متصور، بل هذه الدعائم هي أسسه، وهي أركانه وأقوى ما فيه، لكن لا يعني ذلك انحصاره فيها، بل للإسلام ذروة سنام وله أكارع وله أخلاق وله تتمات وله تكميلات لا حصر لها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة بن اليمان عندما أوصاه في دعوته للناس قال: ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره، وهذا صريح في أن للإسلام أركانا كبيرة، وله تشريعات دون ذلك، ونحتاج إلى تعريف الإسلام في اللغة للاطلاع في أركانه الإيجابية والسلبية، فالإسلام في اللغة معناه الاستسلام والمذلة والخضوع، والتسليم بما يؤمر به الإنسان أو ينهى عنه، وهو في الاصطلاح يطلق إطلاقين، يطلق إطلاقا عاما على كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيشمل ذلك عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح ويكون مرادفا للإيمان الذي سبق، والإطلاق الثاني إطلاقه على عمل الجوارح دون أن يدخل فيه الاعتقاد، وإنما يدخل فيه من عمل القلب النيات والحضور والخشوع ونحو ذلك فقط، وهذا الإطلاق الثاني هو الذي سنسير عليه الآن، وقد سبق أن ذكرنا أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، لكننا نسير على ترتيب حديث جبريل، وقد اجتمع فيه الإيمان والإسلام، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما بما فسره به ففسر الإسلام بأنه أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، وهذه هي أركانه كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر الذي سقناه، ولا يقتضي ذلك انحصاره فيها، بل بين سبحانه وتعالى هذه الأركان للناس، فهي الحدود التي من تعداها وتجاوزها خرج من الإسلام، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جرح وحمل على الرقاب إلى بيته أتاه رجل يذكره بالصلاة، فقال: يا أمير المؤمنين الصلاة، فقال: نعم ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وكذلك فإن هذه الدعائم هي الأسس التي ينطلق منها الإنسان فتكون حاجزا بين الإيمان والكفر، وتكون موجبة لما يترتب عليها من الحقوق كما قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى، فأول هذه الدعائم الشهادتان، وهذا يدلنا على أهمية اللسان، فأول دعائم الإسلام الدعيمة المتعلقة بهذه الجارحة التي جعلها الله واحدة في البدن كله، فقد تعددت العينان والأذنان والمنخران واليدان والرجلان وانفرد اللسان ومع هذا فقد جعله الله تعالى بهذه المنزلة وبهذه المثابة فهو ذو خطر عظيم كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: \"ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، وهو أصل الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، فالنطق بهاتين الشهادتين هو عنوان الإسلام وهو الفاصل بينه وبين الكفر، فهاتان الشهادتان لهما أربع مراتب، المرتبة الأولى أن يعلم الإنسان محتواهما، أن يعلم الإنسان علم اليقين أن لا إله إلا الله وهذا سبق بيانه في الدرس السابق في درس الإيمان، وأن يعلم كذلك بقلبه أن محمدا رسول الله وما يستلزمه ذلك من حقوق النبوة والرسالة، وقد سبق بيان ذلك في الدرس السابق، إذن هذه المرتبة الأولى من مراتب الشهادة الأربع هي العلم بالشيء، وبها فسر قول الله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} فالمقصود هنا العلم بذلك باليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، ثم المرتبة الثانية من مراتب الشهادة النطق بها، والنطق بها عنوان عما في القلب، فإذا نطق بها الإنسان دون أن توافق ما في قلبه كان منافقا، وهذا النطق هو الذي يتحاكم الناس على أساسه لأن العلم الذي يسبقه خفي لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، ونحن ما كلفنا أن نشق عن قلوب الناس، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة: هلا شققت عن قلبه، إنما نحن قوم نحكم بالظواهر كما قال عمر رضي الله عنه: إن الوحي قد انقطع بالنبوة ونحن قوم نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه، ومن هنا فإن المرتبة الأولى موكولة إلى علم الله والمرتبة الثانية هي التي على أساسها تترتب الحقوق وترتب التعزيرات والحدود، ثم المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة هي الالتزام بحقوقها، الالتزام بحقوق هذه الشهادة بعد النطق بها، فمن نطق بالشهادتين فلم يؤد الصلاة ولم يؤد الزكاة ولم يلتزم بدعائم الإسلام فإنه لم تكتمل شهادته بعد لأن هذا هو المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة، ومن لم يؤدها فلا تتم شهادته دونها، أما المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة فهي الإلزام بمقتضاها بعد الالتزام به، الالتزام به هو أن يلتزم الإنسان في نفسه، والإلزام بها معناه أن يسعى لأن يلتزم الناس بها، أن يبذل الجهد من أجل التزام الناس بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولذلك وجب على كل مؤمن أن يحب للناس أن يدخلوا في الإسلام وأن يشهدوا بشهادة الحق، وأن يلتزموا بمقتضاها، وهذه المراتب الأربع لا تتم الشهادة بدونها، من علم مقتضى الشهادة بقلبه ثم لم ينطق بها لا تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها دون أن يلتزم حقوقها لم تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها والتزم حقوقها ولم يسع للإلزام بها لا تتم شهادته، فإذن لا بد من هذه المراتب الأربع التي هي مراتب الشهادة، ثم بعدها الركن الثاني والدعامة الثانية هي الصلاة، وهذه الصلاة ميزتها أنها صلة العبد بربه وهي أوثق عراه به، فهي التي ينال بها المناجاة والقرب، وأقرب أحوال العبد من ربه وهو ساجد، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهي التي تفتح له فيها الخزائن وتتقبل رغباته فيها وتقال عثراته، ويكفر عنه بها ما عداها، وهي أول ما يبدأ به من الأعمال يوم القيامة، فإن نجت للإنسان وكملت له لم يضره ما سواها، وإن ردت عليه طويت كما يطوى الثوب الهدمل ثم يضرب بها وجهه وترد عليه أعماله نسأل الله السلامة والعافية، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \"حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر\" وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: \"إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر\" إن هذه الصلاة أساسها أداؤها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، بشروطها وأركانها في أسبابها التي هي الأوقات على وجهها الصحيح، لكنها لا تتم بذلك فأدنى الكمال فيها أن تأتي فيها بخشوعها وأن تأتي فيها بسننها اللازمة، ثم بعد ذلك يأتي الكمال بما يكملها من المندوبات، وهو أعلى الكمال إذا تم خشوعها وحضورها وسننها ومندوباتها وجاءت في وقتها وحصلت في جماعة، وأداها الإنسان بكل إخلاص فيها وبكل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتجرد له في وقتها، وجعل هذا الوقت الذي خصصه للصلاة خاصا لها لا يريد فيه أي عمل آخر، فهذا هو أعلى الكمال وهو الذي تكون الصلاة به ناهية عن الفحشاء والمنكر، ووجه نهي الصلاة على الفحشاء والمنكر ستة أمور، الأمر الأول أن الإنسان إذا سجد لله سبحانه وتعالى وهو يعلم أنه مطلع على ما في قلبه مطلع على قرارة نفسه ويعلم الحامل له على هذا، ويعلم وساوس نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد فإنه سيستحيي منه ويستحيي أن يناقض نفسه، فيكون هنا في المسجد ساعيا للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى خائفا من ذنوبه وزلاته، فإذا خرج من المسجد بدأ يجمع الذنوب التي كان يستقيلها في المسجد، فهذا التناقض الواضح يخافه الإنسان فلذلك لا يفعله المصلون، المصلون حقيقة الصلاة لا يمكن أن يقعوا في هذا التناقض، ولهذا قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين}، ويقال إن أبا الحسن الشاذلي حين جاء إلى أهل الإسكندرية سألهم فقال: أتصلون؟ قالوا: أفنتركها! قال: أتجزعون وتهلعون؟ قالوا: نعم، قال: إذن أنتم لا تصلون، والمقصود عنده التمام الأكمل أعلى درجات الكمال في الصلاة، فأعلى درجات الكمال في الصلاة هو أن تكون هذه الصلاة على هذا الوجه الذي ذكرناه فيعفر الإنسان جبهته لله وهو يستقيله عثراته ويتوب من سيئاته ويعاهده أن لا يعود إلى ما لا يرضيه، ويسعى بذلك أن يكون حابسا لجوارحه في المسجد عن المعصية، ومن هنا فإن نيات الذهاب إلى المسجد ينبغي أن تكون حاضرة في الأذهان، هذا المسجد الذي نقصده ونكثر الخطى إليه لا بد أن تكون نياتنا في قصده واضحة لأذهاننا، فالنية الأولى الاستجابة لداعي الله عندما نسمعه ينادي حي على الصلاة حي على الفلاح فنجيب داعي الله سبحانه وتعالى، النية الثانية أداء ما افترضه الله علينا على الوجه الأكمل حتى تكون صلاتنا حائلة بيننا وبين معصية الله تعالى مقربة لنا إلى مرضاته، النية الثالثة: ما وعدنا الله تعالى به من الأجر في الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وما جاء في الصف الأول وغير ذلك من الأجر الكثير في قصد المساجد والمشي في ظلمات الليل إليها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلك الرباط، ثم بعد هذا نية الجهاد في سبيل الله، فقد أخرج مالك في الموطإ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم: من ذهب إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما، كذلك نية تعليم من فيه ونية التعلم منهم، فكل ذلك مطلوب شرعا، وإذا خرجت إلى المسجد ونويت أن تعلم من احتاج فإذا رأيت مقصرا في أمر من أمور صلاته أو في أمر من أمور ديانته في المسجد خلوت به فعلمته بكل رفق وبكل لين، وسألته هل فعل ذلك عن جهل أو عن علم، سألته لم فعل هذا، فإن أجابك بعلم عرفت الوجه الذي قصده، وإن كانت المسألة خلافية لم تتعرض لها، وإن أجابك عن جهل أو استشفيت منه جهله بالمسألة علمته بكل لطف ورفق فتكون بذلك من الذين يعمرون المسجد بتعليم العلم، ثم بعد هذا أن تتعلم منهم، وهذا التعلم لا يقتصر على ما تسمعه بأذنك بل ما تشاهده بجوارحك من الليونة في أيدي المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم: لينوا في أيدي إخوانكم ومن استواء الصفوف ومن الأخلاق الحسنة ومن الابتسامة في وجه أخيك المسلم وغير ذلك مما تتعلمه في المسجد، ثم بعد هذا نية الرباط وهي أن تربط جوارحك في هذه الساعة عن معصية الله، هذه الجوارح إذا خرجت إلى الشارع لا بد أن تشاهد بعض ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، إذا ذهبت إلى البيت كثيرا ما تقع أيضا في معصية من معاصي الله، أما ساعتك التي تجلسها في المسجد بقلب سليم مقبل على الله فإن جوارحك ممسوكة عن المعصية، فأنت هنا معتكف عن معصية الله سبحانه وتعالى، قد كبحت جماح جوارحك، فسمعك مشغول بذكر الله، ولسانك مشغول به وبصرك مشغول عن النظر إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى ما دمت في المسجد، كذلك من هذه النيات نية التماس البركة من المسجد فهذه البقعة هي أحب البقاع إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها، وهذا سوق الله وأنت جئت تريد أن تكون من المشترين في سوق الله وأن تكون من العمار لهذا السوق، كذلك من هذه النيات أن تنوي تكثير سواد المسلمين وإعزاز كلمة الدين فإنه لا شيء أعظم في نفوس أعداء الله من هذه الصلاة التي يجتمع لها المسلمون فيقفون لها صفا واحدا فيه غنيهم وفقيرهم وكبيرهم وصغيرهم وقويهم وضعيفهم ومريضهم وصحيحهم، يستوون في الصف ويلين كل واحد منهم لأخيه ويقف إلى جنبه، ولا يتأذى بمسه له ويتواضع له تمام التواضع، ويحس بشفقته عليه ورحمته له، ويقفون صفا واحدا كما تصف الملائكة عند ربها، إن هذا من شعائر الإسلام التي يلزم أن نبرزها وأن نكثر سواد المصلين، وأن نكثر سواد الحاضرين في المساجد، وأن يكون ذلك شاملا لحضور الرجال والنساء والصبيان وغير ذلك، فكل شرائح المسلمين ينبغي أن تجتمع هنا وأن تزول عنها الفوارق، وأن يقع بينها تمام الرحمة والمودة والمحبة في هذا المكان الذي منه انطلقت المحبة وانطلق الإيمان، كذلك فإن من نيات الذهاب إلى المسجد غير هذا، أن تنوي التماس سكنته من الملائكة وصالحي الإنس، فإن الملائكة يتعرفون على الناس على أبواب المساجد، وهم الذين تلتمس شفاعتهم، فإن الله تعالى ذكر أن حملة العرش {ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته}، ومن هنا فإننا محتاجون إلى التعرف إلى الملائكة، ولا شك أن من عرف أن مسؤولا كبيرا أو وجيها من الوجهاء يجلس في هذا البيت ويتعرف إلى كل من فيه فإنه إذا كان ذا حوائج دنيوية سيقصد إلى ذلك الوجيه ويتعرف إليه وإن الملائكة وجهاء عند الله سبحانه وتعالى وهم هنا في هذا المسجد، فتعرفنا عليهم يقتضي قربا، فشفاعتهم ودعوتهم واستغفارهم وإجابتهم للسلام ردهم للسلام وإجابتهم للدعاء بظهر الغيب كل ذلك نحتاج إليه، فمن دعا لأخيه بظهر الغيب كان عند رأسه ملكان يقولان له آمين ولك بمثل، كذلك فإن حضور الصلاة في الجماعة مدعاة للتغلب على شهوات النفوس، فإن الإنسان قد لا يستجاب دعاؤه في نفسه بسبب معصية ارتكبها كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يستجب دعاؤه، أو كأكل الحرام، فمن عاش من الحرام فلا يستجاب دعاؤه، فإذا احتاج إلى استجابة الدعاء ذهب إلى المسجد فاشترك مع المصلين في دعائهم يقرؤون جميعا في صلاتهم: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، والله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين يعطي قبل المسألة ويعطي بعدها، وأنت محتاج إلى ما عنده: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}، ومن هنا احتجت إلى أن يستجاب دعاء الناس حتى تدخل في جملة المصلين ويستجاب دعاؤك بذلك.
كذلك فإن قول المصلين آمين بعد الفاتحة شعيرة من شعائر الإسلام أيضا يحسدهم عليها اليهود كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أعظم ما تحسدكم يهود عليه: آمين، فهذه الكلمة عظيمة جدا في الميزان، وشهود المصلي لها عندما يقول الإمام: ولا الضالين، فيحضر ذلك فيقول آمين إذا صادفت تأمين الملائكة غفر له، وهذه الكلمة القليلة الحروف السهلة على اللسان تصادف تأمين الملائكة فيغفر للإنسان، ولهذا حسدنا اليهود عليها حسدا شديدا وهي متاحة لنا في كل الأوقات، بالإمكان أن تستقيل عثراتك وتغفر ذنوبك في كل ركعة بعد أن يقول الإمام ولا الضالين، وهذا فضل عظيم وأجر كبير ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
الوجه الثاني من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن هذه الصلاة فيها القرآن وكفى بالقرآن واعظا، هذا القرآن كلام الله فيه أوامره ونواهيه وزواجره، وفيه وعده ووعيده، وفيه إرشاده وفيه تهديده، وفيه ترغيبه وفيه ترهيبه، فمن سمعه فلم يؤمن به {فبأي حديث بعده يؤمنون}، من لم يستفد بالقرآن وعظا ورجزا لا يمكن أن ينتفع بأي شيء آخر، والصلاة فيها تلاوة القرآن فأنت تسمع هذا القرآن زاجرا فيكون زاجرا لك عن الفحشاء والمنكر وبذلك تكون الصلاة ناهية لك عن الفحشاء والمنكر.
الوجه الثالث من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن المصلين يجب عليهم أن يتناهوا عن الفحشاء والمنكر، فإذا حضرت معهم فسينهونك عما تقع فيه من المنكرات وسيرشدونك إلى ما يقربك إلى الله تعالى من أنواع المعروف، وبهذا تزول الفروق بين الناس ويؤدي بعضهم إلى بعض الحقوق، وتتأكد الصلة وتقوى المحبة فيما بينهم.
الوجه الرابع من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الإنسان بصلاته يستقيل عثراته ويخفف ذنوبه، والذنب يدعو إلى الذنب، فالسيئة تدعو إلى السيئة والحسنة تدعو إلى الحسنة، وفي كثير من الأحيان يعجل لبعض الناس جزاء سيئاتهم بالوقوع في سيئات أعظم منها، ويعجل لهم كذلك بعض ثواب حسناتهم بالتوفيق إلى حسنات أكبر منها، ومن هنا فإن الإنسان إذا خفف سيئاته فهذا مدعاة لأن يجتنب الفحشاء والمنكر، لأن الفحشاء والمنكر إنما يتجرأ عليه الإنسان بسبب تراكم الذنوب في قلبه حتى يظلم وتغلق مسام القلب عن الإيمان والخوف من الله سبحانه وتعالى، فتأتي الجراءة على الله سبحانه وتعالى، ويأتي من هذا المدخل أمن مكر الله عز وجل، فيقع الإنسان في الفحشاء والمنكر، أما إذا خفف الذنوب وأزال الصدأ عن القلوب فحينئذ سيقبل الإنسان على ما يرضي الله سبحانه وتعالى ويعرض عما لا يرضيه، فتكون الصلاة بذلك ناهية عن الفحشاء والمنكر.
الوجه الخامس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها بمثابة نهر على باب أحدكم ينغمس فيه في اليوم والليلة خمس مرات فهل ترون يبقى من درنه شيء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن هذه الصلاة نور وضياء عظيم جدا ينور الله به قلوب عباده في الدنيا وفي الآخرة، فهي في الدنيا نور وعلامة لأهلها سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، وهي في الآخرة علامة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فقد قيل له: بم تعرف أمتك يوم القيامة، فقال: إن أمتي يردون علي الحوض غرا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل، وكل هذا ساع لأن تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر.
الوجه السادس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الخشوع الذي فيها مقتض لأن يستحضر الإنسان عرضه على الباري سبحانه وتعالى، وأن يستحضر أن ملائكة يحضرون معه فيقدمون عنه التقارير في كل صباح ومساء، فيرتفعون إلى ربهم وهو أعلم، ومن شفقتهم ورحمتهم أنهم عندما يسألهم كيف تركتم عبادي فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، ومع هذا فإن التقارير التي تقدم إلى الله سبحانه وتعالى إذا استحضرها الإنسان في صلاته لا بد أن يقلع، لأن الإنسان إذا استحضر أن الملك يتقدم إلى الله بتقرير في الصباح فيقول: يا رب عبدك فلان فعل الذنب الفلاني، ثم في المساء يتقدم إليه فيقول: يا رب عبدك فلان ما زال مصرا على الذنب الذي فعل في الصباح، ثم في اليوم الذي يليه يأتي تقرير آخر يا رب عبدك فلان ما زال مصرا على هذا الذنب، وتتراكم التقارير حتى تكون مد البصر، إن الإنسان إذا لم يستحي من هذا فليفعل ما شاء، وقد بينا من قبل معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، فهذه الأوجه كانت الصلاة منها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومع ذلك فهي متضمنة لذكر الله وذكر الله أكبر، كما قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون، والصلاة مشتملة على ثلاثة أنواع من أنواع التعبدات، النوع الأول التعبدات القلبية وبدايتها بالنية، فالإنسان ينتفض من هذه الدنيا ويخرج منها مقبلا على الله سبحانه وتعالى، وعلامة نبذه للدنيا أنه إذا كبر تكبيرة الإحرام نبذ الدنيا بيديه وراء ظهره، ورفع اليدين هنا رمز لنبذ الدنيا وراء ظهره والإقبال على الله سبحانه وتعالى ولهذا يجتهد في استقبال القبلة ويجتهد في تسوية الصف لأنه قد تخلص من الدنيا وأقبل على الباري سبحانه وتعالى، ولذلك لا يمتخط ولا يتفل أمام وجهه ولا عن يمينه بل يجعل ذلك تحت رجله أو عن يساره، ثم هذه النيات مقتضية كذلك لأن يسعى الإنسان لتنميتها لأن هذه النية هي إكسير الأعمال، فهي التي تنميها بأضعاف مضاعفة، النيات التي ذكرناها في القدوم إلى المسجد ونيات سواها، ونيات في أداء الصلاة نفسها بالتقرب إلى الله بما افترضه وبمنافسة ملائكته وباتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبالتماس موعوده وبالخوف من عق
بسم الله الرحمن الرحيم
وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن الله عز وجل سمى هذا الدين الذي أرسل به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة دين الإسلام، وختم به الديانات السابقة، وجعله الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، فكل ما سواه من الأديان بعد نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم به مردود على أصحابه، لا يتقبل الله منه شيئا، وإن الله عز وجل لم يرض للبرية إلا هذا الدين، وإنما جعل الأديان السابقة له إعدادا له فقط، لأن البشرية خلقها الله تعالى متدرجة، فلم تصل إلى نضجها ولم تكتمل أطوار حياتها إلى في الطور الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فما زالت البشرية تتقدم في أطوار حياتها كتقدم الصبي في نماء بدنه وعقله وتطور معارفه، وهو يحتاج في كل طور إلى ملابس جديدة تتناسب مع حجمه، وإلى تغذية تتناسب مع واقعه وصحته، وكذلك هذا الدين، فإن الله كان ينزل منه في كل فترة ما يتناسب مع الطور الذي تمر به البشرية، ويعلم نهاية ذلك الطور وأن ذلك الدين لا يصلح لما بعد ذلك الطور، فإذا انتهى ذلك الطور نسخ الله تلك الشريعة وأتى بشريعة جديدة تطور سابقتها أو تنسخها وتلغي أكثر أحكامها، ومن هنا فإن الشرائع السابقة تنقسم إلى قسمين، إلى شريعة مطورة أي مكملة لسابقتها، مبيحة لبعض ما حرمته ومحرمة لبعض ما أحلته، كشريعة عيسى مع شريعة موسى، أو إلى شريعة جديدة ناسخة لسابقتها بالكلية، كشريعة موسى مع شرائع من قبله من الرسل.
وإن رسل بني إسرائيل إنما كانت شرائعهم مجددة لشريعة موسى، ولهذا قال الله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: {ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها ناسخة لكل ما سبق، ولهذا قال الله تعالى: {ومهيمنا عليه} وقال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} فما سواه من الأديان ليس دينا كاملا مستقرا عند الله عز وجل وإنما هو دين آني مؤقت بفترة محددة لا يتعداها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا الفترة التي بعث فيها فيما أخرج عنه مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة طويلة: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب)، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل كما جاء ذلك مرتين في سورة المائدة، وأخبر أنه بعث في الأميين في الجاهلية في فترة الرسل واقتراب الساعة وجهالة الناس فجاء بهذه الحنيفية السمحة التي هي الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، والتي لا يقبل الله من أحد وصلت إليه سواها من الدين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار».
فارتضى الله تعالى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون إماما للبشرية، وارتضى هذا الدين الذي جاء به للبشرية بحذافيرها فهو صالح لكل زمان ومكان، ومشروط على الناس أن يأخذوا به ويتبعوه، وإن كثيرا من الناس يغلط في تصور هذا الدين، وذلك لقصور نظره فيرى جانبا واحدا منه فيقوم هذا الدين على أساسه.
فمثلا تسمع كثيرا من الناس يقارن الإسلام بالأيديولوجيات الفكرية، فيقارن الفكر الإسلامي أو الدين الإسلامي بالفكرة الرأسمالية والفكرة الشيوعية، ويقول: هو متوسط بين الفكرتين فالفكرة الرأسمالية تراعي حقوق الفرد ولا تراعي حقوق الأمم، والفكرة الشيوعية تراعي حقوق الأمم ولا تراعي حقوق الأفراد، والإسلام يراعي حقوق الجميع، لكن الواقع أن هذه النظرة قاصرة لأنها ما نظرت إلا إلى جانب واحد من الإسلام وهو المجال الفكري في العدالة الاجتماعية بين الناس فقط، وكذلك تسمع آخرين يقارنونه بالقوانين الوضعية، وهذا قصور في التصور أيضا، فما نظروا إلا إلى الجانب المنظم لعلاقات الناس فيما بينهم، والواقع أن الإسلام أعم وأشمل من هذا، فهو نظام شامل لكل أمور الحياة، فالقانون مثلا لا يهتم بأخلاق الناس ولا يهتم بتنظيم معاملاتهم مع ربهم الذي خلقهم وسواهم، وأنتم تعلمون أن هذه الأمور من أهم شرائع الإسلام وقد جاء فيها كثير من نصوصه، ووضع فيها كثير من قواعده، ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس دينا من الأرض، ليس نابعا عن قصور في التصور، وليس ناشئا عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئا كذلك عن عقول قاصرة وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير، الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان، الجانب الأول منه ما ينظم اعتقادهم ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم، وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى، وكذلك الجانب الثاني في التعامل مع الله وهو جانب العبادة مع الله التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف، لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، وقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}، ومن هنا فلا يمكن أن يتقرب إليه إلا بما شرع، لا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلا من عند الله، لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعا أو يرفع عنه ضررا، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ما جاء، وكذلك كان من الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم وهو نوعان، النوع الأول ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بحسن الصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق، وسيأتي بعض تفصيلها إن شاء الله تعالى في درس آخر تحت عنوان الإحسان إن شاء الله تعالى، أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعا واضحا مبينا للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعا مترابطا، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرؤون في سورة الحجرات ثلاثة عشر سببا من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي، أول هذه الأسباب التعدي على الصلاحيات وهو المذكور في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}، كذلك السبب الثاني عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضا مأخوذ من هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: {إن جاءكم فاسق بنبإ}، ثم بعده: عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: {فتبينوا}، وفي القراءة السبعية الأخرى فتثبتوا، ثم بعده الظلم وهو المذكور في قوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن}، ثم بعد ذلك ظن السوء والتنابز بالألقاب والنميمة وأكل الغيبة، وهذه كلها هي المذكورة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه}، ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية، واتصلت عراها وهي قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادرا على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطا يحتاج بعض أفراده إلى بعض، ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط ولهذا قال الله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون}، وقال تعلى: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون}، فوزع بينهم الأرزاق توزيعا عجيبا، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم، لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجها صحيحا لأخذها وهو محتاج إليها، فإن كان قويا لا بد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفا سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك، ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، لا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي ترونه مستشريا في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان، لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله، لكن عندما يترك الناس هذا النظام ظهريا ويعدلوا به ما سواه فلا بد أن يتردوا في أوحال الرذيلة ولا بد أن يظلم بعضهم بعضا، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله سبحانه وتعالى على الناس كما قال سبحانه وتعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}، فشرع الله تعالى البيوع التي يقع بها التبادل بين الناس، فالضعيف إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، والقوي إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، ومن كان لديه ما لا يحتاج إليه ورأى ما يحتاج إليه عند غيره أمكنهما التبادل فيما بينهما، بكل عدالة ونزاهة، وأن يعلموا أن ذلك إنما القصد به الوصول إلى الرفاه والوصول إلى إشباع رغباتهم الدنيوية في هذه الحياة الدنيا، والتوصل إلى مرضاة الله في الدار الآخرة، وليس المقصود به حرمان قوم من هذا المعاش الذي جعله الله في الأرض، فما فيها من الأرزاق كاف لمن فيها من البشرية، لا يخلق الله من خلق يضيعه، فالرزق الذي خلق الله في هذه الأرض كاف لأهلها، ففيها من الخيرات وأنواع المعادن وأنواع الزراعات وأنواع الثمار والأشجار ما يكفي أهلها، وفيها من المياه ما لا ينقضي إلا بموت أهلها، ومن هنا فإنها تكفي الأحياء والأموات كما قال تعالى: {كفاتا أحياء وأمواتا} فالأموات تكفتهم في بطنها والأحياء تحملهم في ظهرها، وقد دحاها الله سبحانه وتعالى لذلك ووزع فيها أنواع الخيرات، ومن هنا لو استغلت هذه الخيرات استغلالا صحيحا لكفت البشرية وقامت بحقوقها كلها، وقد أمرنا الله تعالى باستعمارها واستغلالها والمشي في مناكبها، وأن نبتغي من فضل الله تعالى في ذلك، ولو اتبعت هذه الخطى التي حددها الشارع سبحانه وتعالى لحصل العدل وارتفع العسف والظلم بين الناس، ونال كل أحد منهم حقوقه وما يستحقه في هذه الأرض، ومن هنا شرعت العقود التي تقضي على أنواع هذه الخدائع وأنواع الظلم والعسف مطلقا، فجعل البيع بديلا للربا، وجعل النكاح بديلا للسفاح، وجعل الدين كذلك بالتي هي أحسن بديلا للاسترقاق والظلم، ومن هنا جعل لكل وجه من أوجه الفساد بديل يناسب حال المجتمع ويلائم احتياجاته ويسد عوزه، وهذا من حكمة الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، ثم إن من هذا الدين ما يردع أهل الفساد إذا استشرى وحصل وهو ما يسمى بالحدود والتعزيرات، فإنها تزجر الواقعين في هذه المعاصي وهذه القاذورات عما وقعوا فيه، وتكفر عمن تاب وأحسن فيما بعدها، وهذه الفواحش التي رتب الله تعالى عليها هذه الحدود مضرة بأهل الأرض إضرارا شاملا كاملا لا يختص بالمتعاطين لها أو بالقائمين عليها فقط، ومن أجل هذا جعلت حدودها رادعة، فمنها ما حده القتل، ومنها ما حده الرجم بالحجارة إلى الموت، ومنها ما حده قطع اليد ومنها ما حده الجلد، فهذه الحدود لا يقصد بها التشفي من شخص واحد وإنما يقصد بها علاج مجتمع بكامله، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتا، من أن يمطروا سبتا معناه أن ينزل عليهم المطر أسبوعا كاملا، فهذه الحدود تردع الفساد وترده وتقوم أخلاق الناس وترد جماح الجامح منهم، وتعالج مرض المريض منهم، فهي علاج رادع لشيطان الإنسان الذي يستزله في هذه المحرمات ويوقعه في هذه الفواحش، وكذلك التعزيرات التي وكلها الله إلى اجتهاد الحكام المؤمنين القائمين بالعدل هي كذلك رادعة عن تلك الذنوب التي هي دون الأولى، فلا تصل إلى حد الحدود وإنما هي دونها وأقل منها، وكذلك الكفارات التي تكفر المعاصي التي يقع فيها الإنسان وتعالج ما يجده الإنسان من الانكسار في نفسه، فإن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، ومن فرط في جنب الله تعالى فأقام الله عليه الحجة وتذكر ماضيه، وما فرط فيه في جنب الله وأنه قد أسرف كثيرا فيما مضى من زمانه وهو مقدم على الله وما يدري حاله ولا يدري كيف يجيب إذا عرض على الباري سبحانه وتعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون}، سينكسر قلبه ويتأثر نفسيا تأثرا شديدا بالذنوب التي أسرف فيها على نفسه فيما مضى من عمره، لكن الله شرع له الكفارات التي تكفر هذه الذنوب وتطمس أثرها، وأهم هذه الكفارات إتباع الحسنة للسيئة وأن يعمل الإنسان من الحسنات أكثر مما عمل من السيئات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن، وكذلك من هذه الكفارات اجتناب الكبائر، فإنما وقع فيه الإنسان بعد ذلك من الصغائر يكفره اجتناب الكبائر كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما، وكذلك من هذه المكفرات الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى والشهادة في سبيله وكذلك التضحية في سبيله بما يستطيعه الإنسان، ومنها الكفارات المخصوصة بأمور محددة ككفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الإفطار في نهار رمضان، وكفارة اليمين وغير ذلك من الكفارات المبينة شرعا، فهي جوابر وزواجر تزجر الإنسان عن العود إلى ما فرط فيه في جنب الله وتجبر له ما وقع فيه من الخطإ والتقصير، والإنسان محتاج إلى ذلك أشد الحاجة، ثم من هذه الجوانب كذلك التي شرعها الله تعالى في الإسلام وبينها للناس الجانب القضائي الذي يفصل المشكلات عند حصولها، ويعالجها علاجا وقائيا قبل حصولها بالصلح والتراضي وإصلاح ذات البين، وهذا الجانب أيضا من جوانب الإسلام المهمة التي لا يستغني عنها الناس وعندما تركوها وقصروا فيها وتركوا التحاكم إلى دين الله سبحانه وتعالى اشتهر فيهم ما ترون من الظلم والانحراف والبغي في القضاء، وقد حكم الله تعالى في كتابه بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، وأقسم على نفي الإيمان عنهم في كتابه فقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، إن جوانب الإسلام ومجالات تشريعه كثيرة جدا، لا يمكن أن نتعرض لها في مثل هذه العجالة، ولكننا سنصل إلى مستويين من هذه الجوانب، المستوى الأول هو المستوى الإيجابي، والمستوى الثاني هو المستوى السلبي، أما المستوى الإيجابي فمعناه الفرائض التي هي الدعائم والأركان التي عليها بني دين الإسلام، والمستوى السلبي هي كبائر الإثم والفواحش التي حرمها الإسلام، فإذا تصور الإنسان ما أوجبه الإسلام من الدعائم الأصول وما حرمه من الكبائر والفواحش تصور هذا الدين بكامله، وعرف أنه منتم لهذا الدين أو غير منتم له، ولا يمكن أن يحقق الإنسان انتماءه لهذا الدين واعتزازه به إلا إذا أتى بأركانه الإيجابية واجتنب نواهيه الكبرى السلبية، ومن لم يفعل ذلك لم يذق لهذا الدين طعما، ولم يعلم أن له حلاوة، ومن هنا فإن كثيرا من الناس إنما ينتسبون إلى هذا الدين بسبب الدار والتربية فقط، لكنهم لا يذوقون عزة الإسلام ولا يشعرون بذلك ولا يحسون بالحقوق التي يرتبها الإسلام عليهم، لا شك أن الإنسان عندما تثور نفسه ويغضب غضبا شديدا إذا تذكر أنه مسلم وتذكر معنى ذلك ومعناه الاستسلام لله سبحانه وتعالى في أحكامه، ستسكن نفسه ويذهب غضبه ويعرف أنه محكوم بإطار قوي هو دين الإسلام وهذا الإطار عليه أن يخاف أن يخرج منه في كل اللحظات، وكذلك إذا جمحت به شهوته وشيطانه إلى الوقوع في الشهوات وكان مسلما حقا ذائقا لحلاوة الإيمان وجد ذلك الوازع الديني القوي في نفسه يحول بينه وبين معصية الله، فيجد جدارا قويا يقف في وجهه ويقطع عليه مسيرة شهوته ويرده إلى الإسلام فيتذكر هاذم اللذات الموت، يتذكر العرض على الله سبحانه وتعالى، يتذكر حاله وهو محمول على النعش فوق الرقاب إلى الدار الآخرة، ومن هنا لا شك أنه سيرجع ويعود من حيث بدأ فيتوب إلى الله تعالى ويتلافى ما مضى، فيكون من الذين اتقوا كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}.
إن التزام الإنسان بهذه الأوامر واجتنابه لهذه النواهي يجعله صاحب عزة بالله سبحانه وتعالى لأنه من أهل الله، يشعر بانتمائه إلى الله سبحانه وتعالى واتصاله به، وإن الإنسان إذا اتصل، بديان السماوات والأرض الملك الجبار الذي يقبض السماوات السبع والأرضين السبع بيمينه يوم القيامة فيهزهن فيقول: أين الجبارون أين المتكبرون، إن من اتصل بهذا الملك الديان، لا يمكن أن يذل ويخضع لمن سواه، إن من عرف الله تعالى حق المعرفة لا يمكن أن يركع لمن سواه ولا أن يسجد له ولا أن يخافه طرفة عين، كيف تخاف مملوكا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأنت تعرف الملك الديان ديان السماوات والأرض {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}، لكن السبب فيما نراه من نقص الإيمان وترديه هو عدم الصلة به سبحانه وتعالى وعدم معرفته، إن كثيرا من الناس يبحث عن معرفة الله تعالى من غير الوجه الصحيح، إن معرفته إنما تكون بالتقرب إليه بما شرع، إذا طلبت معرفته بغير ذلك طلبت معرفته بعقلك القاصر، أو طلبت معرفته بعاطفتك غير المربوطة بأوامر الله تعالى ونواهيه، أو طلبت معرفته بالأمثلة الدنيوية، أو طلبت معرفته بالفلسفات الشرقية أو الغربية فقد ضللت عن سواء الصراط ولم تعرف الله تعالى، إنما تعرف الله تعالى إذا امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه ووقفت عند حدوده، وحينئذ لا يمكن أن تضل سواء السبيل، بل هذا هو الطريق المضمون الذي لا يضل من سلكه أبدا، وهو الحبل القويم الذي من تمسك به عصم، ومن هنا فإن اعتزازك بانتمائك للإسلام لا ينبغي أن يكون نابعا عن أنه من تراثك وتراث آبائك وأجدادك، وإنما تعتز به لأنه علاقتك بربك وصلتك بديان السماوات والأرض، إن هذا الاعتزاز بهذا الدين لا يذوقه المعرضون عنه والمتهافتون على الدنيا، والذين يبيعون آخرتهم بأعراض دنيوية، إنهم لا يمكن أن يذوقوا حلاوة هذا الإيمان، ولا يمكن أن يذوقوا هذه العزة التي حكم الله بها لله ولرسوله وللمؤمنين، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
إن انتماءك لدين الله تعالى ينبغي أن يكون نابعا من محبتك لهذا الدين وتضحيتك في سبيله، وإنك لن تضحي في سبيل هذا الدين إلا إذا أحببته ودخل في كيانك وجعلته مقدما على انتماءاتك وولاءاتك المختلفة، ومن هنا فإن تصور المنافقين للدين كان تصورا خاطئا، فقدموا عليه انتماءاتهم وولاءاتهم واعتزازهم بأمور الدنيا فقالوا: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}، فرد الله عليهم بقول: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون}، إن كثيرا من الناس اليوم يفهم هذا الدين فهم المنافقين، يفهم الإسلام من الزاوية التي فهمه منها المنافقون، فلا نجده منتميا إليه تمام الانتماء، ولا نجده يشعر بمسؤوليته عنه، ولا نجده ساعيا في إعزازه وإعلائه ولا نجده باذلا في سبيل ظهوره على الدين كله ولو كره المشركون وسبب ذلك نقص إيمانهم وجهالتهم بهذا الدين، وأنهم أخذوه تراثا ولم يأخذوه تطبيقا ولم يأخذوه علاقة بالله ولم يأخذوه صلة به، إذا درسوا الإسلام درسوه فقها مجردا عن العمل مجردا عن الوازع الديني مجردا عن القناعة مجردا عن التقوى التي هي تقوى القلب، وهذا خطأ في التصور، وكثير من الناس يظن أن هذا الخطأ راجع للفقهاء رحمهم الله الذين دونوا المسائل الفقهية مجردة عن الترغيب والترهيب، لكن هذا أيضا خطأ في التصور، فالفقهاء إنما هم مؤلفون وضعوا مناهج لمدارس، وهذه المناهج لا بد أن تتكامل، فلا يمكن أن يكون الإنسان فقيها لم يدرس ما سوى الفقه، فالفقه علم يحتاج إلى ما سواه من العلوم والعلوم الشرعية مترابطة، فمن لم يدرس الترغيب والترهيب لا ينفعه ما يدرسه من الأحكام الفقهية المجردة، ومن لم يدرس مشاهد القيامة وأحوالها لا يمكن أن يهتم بتفاريع الفقه ورغائبه ونوافله، ولا يمكن أن يتأثر بذلك قلبيا ولا أن يستفيد منه، ومن هنا فإن من دعائم الإسلام التي سنذكرها الصلاة، والصلاة بين الله سبحانه وتعالى حكمتها بقوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} وإن كثيرا من الناس يدرسون الفروع الواردة في الصلاة واجبات وسننا ومندوبات ويحاولون تطبيقها، لكنها لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، والسبب في ذلك أنهم ما درسوا ترغيبها وترهيبها، وما لامست قلوبهم ولا ذاقوا لها طعما ولا أحسوا بلذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، ولا ذاقوا لذة المذلة بين يديه وتعفير الوجه له سبحانه وتعالى لكبريائه وجلاله، وما ذاقوا كذلك رفع حوائجهم إليه كفاحا دون ترجمان وتعلق القلب به ومسألته مباشرة دون المذلة لغيره، وهذه حلاوة لا تعدلها حلاوة، عندما تنقطع أسباب الشخص من الدنيا ويقبل على ديان السماوات والأرض وحده، وينوط به جميع حوائجه، وينصرف بقلبه بالكلية عمن سواه وينقطع عنه ويكون حرا من كل الأغيار عبدا عبودية حقيقية لله سبحانه وتعالى سيذوق طعما لا يمكن أن يذاق له نظير، ومن هنا فإن التصور الصحيح للإسلام أن يدرس بحذافيره، وأن يؤخذ بأطرافه، وأن لا يتخصص في تخصص واحد من تخصصاته، فمن أخذ أيضا بالرقائق وحدها دون التطبيقات لا بد أن يضل سواء السبيل لأنه لا يمكن أن يعرف فرائض الله تعالى والسنن التي شرعها رسوله صلى الله عليه وسلم والنوافل والمندوبات التي أمر بها وحض عليها من تلقاء رقائقه، ومن تلقاء عاطفته الجياشة وحماسه المستمر، لا يمكن أن يعرف هذا إلا بالفقه بالأحكام والتضلع في معرفة الحلال والحرام، ومن هنا كان لا بد للإنسان من الجمع بين جوانب الإسلام المختلفة، وكل هذا يشمله هذا العنوان الكبير الذي هو الإسلام، وكثير من الناس إذا سمع حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان) ظن أن الإسلام محصور في هذه الدعائم، وهذا خطأ في التصور، هل تتصورون أن المسجد محصور في الدعائم الأربع التي هي أركانه لا يمكن أن يتصور هذا متصور، بل هذه الدعائم هي أسسه، وهي أركانه وأقوى ما فيه، لكن لا يعني ذلك انحصاره فيها، بل للإسلام ذروة سنام وله أكارع وله أخلاق وله تتمات وله تكميلات لا حصر لها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة بن اليمان عندما أوصاه في دعوته للناس قال: ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره، وهذا صريح في أن للإسلام أركانا كبيرة، وله تشريعات دون ذلك، ونحتاج إلى تعريف الإسلام في اللغة للاطلاع في أركانه الإيجابية والسلبية، فالإسلام في اللغة معناه الاستسلام والمذلة والخضوع، والتسليم بما يؤمر به الإنسان أو ينهى عنه، وهو في الاصطلاح يطلق إطلاقين، يطلق إطلاقا عاما على كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيشمل ذلك عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح ويكون مرادفا للإيمان الذي سبق، والإطلاق الثاني إطلاقه على عمل الجوارح دون أن يدخل فيه الاعتقاد، وإنما يدخل فيه من عمل القلب النيات والحضور والخشوع ونحو ذلك فقط، وهذا الإطلاق الثاني هو الذي سنسير عليه الآن، وقد سبق أن ذكرنا أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، لكننا نسير على ترتيب حديث جبريل، وقد اجتمع فيه الإيمان والإسلام، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما بما فسره به ففسر الإسلام بأنه أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، وهذه هي أركانه كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر الذي سقناه، ولا يقتضي ذلك انحصاره فيها، بل بين سبحانه وتعالى هذه الأركان للناس، فهي الحدود التي من تعداها وتجاوزها خرج من الإسلام، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جرح وحمل على الرقاب إلى بيته أتاه رجل يذكره بالصلاة، فقال: يا أمير المؤمنين الصلاة، فقال: نعم ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وكذلك فإن هذه الدعائم هي الأسس التي ينطلق منها الإنسان فتكون حاجزا بين الإيمان والكفر، وتكون موجبة لما يترتب عليها من الحقوق كما قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى، فأول هذه الدعائم الشهادتان، وهذا يدلنا على أهمية اللسان، فأول دعائم الإسلام الدعيمة المتعلقة بهذه الجارحة التي جعلها الله واحدة في البدن كله، فقد تعددت العينان والأذنان والمنخران واليدان والرجلان وانفرد اللسان ومع هذا فقد جعله الله تعالى بهذه المنزلة وبهذه المثابة فهو ذو خطر عظيم كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: \"ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، وهو أصل الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، فالنطق بهاتين الشهادتين هو عنوان الإسلام وهو الفاصل بينه وبين الكفر، فهاتان الشهادتان لهما أربع مراتب، المرتبة الأولى أن يعلم الإنسان محتواهما، أن يعلم الإنسان علم اليقين أن لا إله إلا الله وهذا سبق بيانه في الدرس السابق في درس الإيمان، وأن يعلم كذلك بقلبه أن محمدا رسول الله وما يستلزمه ذلك من حقوق النبوة والرسالة، وقد سبق بيان ذلك في الدرس السابق، إذن هذه المرتبة الأولى من مراتب الشهادة الأربع هي العلم بالشيء، وبها فسر قول الله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} فالمقصود هنا العلم بذلك باليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، ثم المرتبة الثانية من مراتب الشهادة النطق بها، والنطق بها عنوان عما في القلب، فإذا نطق بها الإنسان دون أن توافق ما في قلبه كان منافقا، وهذا النطق هو الذي يتحاكم الناس على أساسه لأن العلم الذي يسبقه خفي لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، ونحن ما كلفنا أن نشق عن قلوب الناس، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة: هلا شققت عن قلبه، إنما نحن قوم نحكم بالظواهر كما قال عمر رضي الله عنه: إن الوحي قد انقطع بالنبوة ونحن قوم نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه، ومن هنا فإن المرتبة الأولى موكولة إلى علم الله والمرتبة الثانية هي التي على أساسها تترتب الحقوق وترتب التعزيرات والحدود، ثم المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة هي الالتزام بحقوقها، الالتزام بحقوق هذه الشهادة بعد النطق بها، فمن نطق بالشهادتين فلم يؤد الصلاة ولم يؤد الزكاة ولم يلتزم بدعائم الإسلام فإنه لم تكتمل شهادته بعد لأن هذا هو المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة، ومن لم يؤدها فلا تتم شهادته دونها، أما المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة فهي الإلزام بمقتضاها بعد الالتزام به، الالتزام به هو أن يلتزم الإنسان في نفسه، والإلزام بها معناه أن يسعى لأن يلتزم الناس بها، أن يبذل الجهد من أجل التزام الناس بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولذلك وجب على كل مؤمن أن يحب للناس أن يدخلوا في الإسلام وأن يشهدوا بشهادة الحق، وأن يلتزموا بمقتضاها، وهذه المراتب الأربع لا تتم الشهادة بدونها، من علم مقتضى الشهادة بقلبه ثم لم ينطق بها لا تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها دون أن يلتزم حقوقها لم تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها والتزم حقوقها ولم يسع للإلزام بها لا تتم شهادته، فإذن لا بد من هذه المراتب الأربع التي هي مراتب الشهادة، ثم بعدها الركن الثاني والدعامة الثانية هي الصلاة، وهذه الصلاة ميزتها أنها صلة العبد بربه وهي أوثق عراه به، فهي التي ينال بها المناجاة والقرب، وأقرب أحوال العبد من ربه وهو ساجد، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهي التي تفتح له فيها الخزائن وتتقبل رغباته فيها وتقال عثراته، ويكفر عنه بها ما عداها، وهي أول ما يبدأ به من الأعمال يوم القيامة، فإن نجت للإنسان وكملت له لم يضره ما سواها، وإن ردت عليه طويت كما يطوى الثوب الهدمل ثم يضرب بها وجهه وترد عليه أعماله نسأل الله السلامة والعافية، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \"حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر\" وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: \"إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر\" إن هذه الصلاة أساسها أداؤها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، بشروطها وأركانها في أسبابها التي هي الأوقات على وجهها الصحيح، لكنها لا تتم بذلك فأدنى الكمال فيها أن تأتي فيها بخشوعها وأن تأتي فيها بسننها اللازمة، ثم بعد ذلك يأتي الكمال بما يكملها من المندوبات، وهو أعلى الكمال إذا تم خشوعها وحضورها وسننها ومندوباتها وجاءت في وقتها وحصلت في جماعة، وأداها الإنسان بكل إخلاص فيها وبكل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتجرد له في وقتها، وجعل هذا الوقت الذي خصصه للصلاة خاصا لها لا يريد فيه أي عمل آخر، فهذا هو أعلى الكمال وهو الذي تكون الصلاة به ناهية عن الفحشاء والمنكر، ووجه نهي الصلاة على الفحشاء والمنكر ستة أمور، الأمر الأول أن الإنسان إذا سجد لله سبحانه وتعالى وهو يعلم أنه مطلع على ما في قلبه مطلع على قرارة نفسه ويعلم الحامل له على هذا، ويعلم وساوس نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد فإنه سيستحيي منه ويستحيي أن يناقض نفسه، فيكون هنا في المسجد ساعيا للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى خائفا من ذنوبه وزلاته، فإذا خرج من المسجد بدأ يجمع الذنوب التي كان يستقيلها في المسجد، فهذا التناقض الواضح يخافه الإنسان فلذلك لا يفعله المصلون، المصلون حقيقة الصلاة لا يمكن أن يقعوا في هذا التناقض، ولهذا قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين}، ويقال إن أبا الحسن الشاذلي حين جاء إلى أهل الإسكندرية سألهم فقال: أتصلون؟ قالوا: أفنتركها! قال: أتجزعون وتهلعون؟ قالوا: نعم، قال: إذن أنتم لا تصلون، والمقصود عنده التمام الأكمل أعلى درجات الكمال في الصلاة، فأعلى درجات الكمال في الصلاة هو أن تكون هذه الصلاة على هذا الوجه الذي ذكرناه فيعفر الإنسان جبهته لله وهو يستقيله عثراته ويتوب من سيئاته ويعاهده أن لا يعود إلى ما لا يرضيه، ويسعى بذلك أن يكون حابسا لجوارحه في المسجد عن المعصية، ومن هنا فإن نيات الذهاب إلى المسجد ينبغي أن تكون حاضرة في الأذهان، هذا المسجد الذي نقصده ونكثر الخطى إليه لا بد أن تكون نياتنا في قصده واضحة لأذهاننا، فالنية الأولى الاستجابة لداعي الله عندما نسمعه ينادي حي على الصلاة حي على الفلاح فنجيب داعي الله سبحانه وتعالى، النية الثانية أداء ما افترضه الله علينا على الوجه الأكمل حتى تكون صلاتنا حائلة بيننا وبين معصية الله تعالى مقربة لنا إلى مرضاته، النية الثالثة: ما وعدنا الله تعالى به من الأجر في الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وما جاء في الصف الأول وغير ذلك من الأجر الكثير في قصد المساجد والمشي في ظلمات الليل إليها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلك الرباط، ثم بعد هذا نية الجهاد في سبيل الله، فقد أخرج مالك في الموطإ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم: من ذهب إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما، كذلك نية تعليم من فيه ونية التعلم منهم، فكل ذلك مطلوب شرعا، وإذا خرجت إلى المسجد ونويت أن تعلم من احتاج فإذا رأيت مقصرا في أمر من أمور صلاته أو في أمر من أمور ديانته في المسجد خلوت به فعلمته بكل رفق وبكل لين، وسألته هل فعل ذلك عن جهل أو عن علم، سألته لم فعل هذا، فإن أجابك بعلم عرفت الوجه الذي قصده، وإن كانت المسألة خلافية لم تتعرض لها، وإن أجابك عن جهل أو استشفيت منه جهله بالمسألة علمته بكل لطف ورفق فتكون بذلك من الذين يعمرون المسجد بتعليم العلم، ثم بعد هذا أن تتعلم منهم، وهذا التعلم لا يقتصر على ما تسمعه بأذنك بل ما تشاهده بجوارحك من الليونة في أيدي المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم: لينوا في أيدي إخوانكم ومن استواء الصفوف ومن الأخلاق الحسنة ومن الابتسامة في وجه أخيك المسلم وغير ذلك مما تتعلمه في المسجد، ثم بعد هذا نية الرباط وهي أن تربط جوارحك في هذه الساعة عن معصية الله، هذه الجوارح إذا خرجت إلى الشارع لا بد أن تشاهد بعض ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، إذا ذهبت إلى البيت كثيرا ما تقع أيضا في معصية من معاصي الله، أما ساعتك التي تجلسها في المسجد بقلب سليم مقبل على الله فإن جوارحك ممسوكة عن المعصية، فأنت هنا معتكف عن معصية الله سبحانه وتعالى، قد كبحت جماح جوارحك، فسمعك مشغول بذكر الله، ولسانك مشغول به وبصرك مشغول عن النظر إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى ما دمت في المسجد، كذلك من هذه النيات نية التماس البركة من المسجد فهذه البقعة هي أحب البقاع إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها، وهذا سوق الله وأنت جئت تريد أن تكون من المشترين في سوق الله وأن تكون من العمار لهذا السوق، كذلك من هذه النيات أن تنوي تكثير سواد المسلمين وإعزاز كلمة الدين فإنه لا شيء أعظم في نفوس أعداء الله من هذه الصلاة التي يجتمع لها المسلمون فيقفون لها صفا واحدا فيه غنيهم وفقيرهم وكبيرهم وصغيرهم وقويهم وضعيفهم ومريضهم وصحيحهم، يستوون في الصف ويلين كل واحد منهم لأخيه ويقف إلى جنبه، ولا يتأذى بمسه له ويتواضع له تمام التواضع، ويحس بشفقته عليه ورحمته له، ويقفون صفا واحدا كما تصف الملائكة عند ربها، إن هذا من شعائر الإسلام التي يلزم أن نبرزها وأن نكثر سواد المصلين، وأن نكثر سواد الحاضرين في المساجد، وأن يكون ذلك شاملا لحضور الرجال والنساء والصبيان وغير ذلك، فكل شرائح المسلمين ينبغي أن تجتمع هنا وأن تزول عنها الفوارق، وأن يقع بينها تمام الرحمة والمودة والمحبة في هذا المكان الذي منه انطلقت المحبة وانطلق الإيمان، كذلك فإن من نيات الذهاب إلى المسجد غير هذا، أن تنوي التماس سكنته من الملائكة وصالحي الإنس، فإن الملائكة يتعرفون على الناس على أبواب المساجد، وهم الذين تلتمس شفاعتهم، فإن الله تعالى ذكر أن حملة العرش {ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته}، ومن هنا فإننا محتاجون إلى التعرف إلى الملائكة، ولا شك أن من عرف أن مسؤولا كبيرا أو وجيها من الوجهاء يجلس في هذا البيت ويتعرف إلى كل من فيه فإنه إذا كان ذا حوائج دنيوية سيقصد إلى ذلك الوجيه ويتعرف إليه وإن الملائكة وجهاء عند الله سبحانه وتعالى وهم هنا في هذا المسجد، فتعرفنا عليهم يقتضي قربا، فشفاعتهم ودعوتهم واستغفارهم وإجابتهم للسلام ردهم للسلام وإجابتهم للدعاء بظهر الغيب كل ذلك نحتاج إليه، فمن دعا لأخيه بظهر الغيب كان عند رأسه ملكان يقولان له آمين ولك بمثل، كذلك فإن حضور الصلاة في الجماعة مدعاة للتغلب على شهوات النفوس، فإن الإنسان قد لا يستجاب دعاؤه في نفسه بسبب معصية ارتكبها كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يستجب دعاؤه، أو كأكل الحرام، فمن عاش من الحرام فلا يستجاب دعاؤه، فإذا احتاج إلى استجابة الدعاء ذهب إلى المسجد فاشترك مع المصلين في دعائهم يقرؤون جميعا في صلاتهم: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، والله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين يعطي قبل المسألة ويعطي بعدها، وأنت محتاج إلى ما عنده: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}، ومن هنا احتجت إلى أن يستجاب دعاء الناس حتى تدخل في جملة المصلين ويستجاب دعاؤك بذلك.
كذلك فإن قول المصلين آمين بعد الفاتحة شعيرة من شعائر الإسلام أيضا يحسدهم عليها اليهود كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أعظم ما تحسدكم يهود عليه: آمين، فهذه الكلمة عظيمة جدا في الميزان، وشهود المصلي لها عندما يقول الإمام: ولا الضالين، فيحضر ذلك فيقول آمين إذا صادفت تأمين الملائكة غفر له، وهذه الكلمة القليلة الحروف السهلة على اللسان تصادف تأمين الملائكة فيغفر للإنسان، ولهذا حسدنا اليهود عليها حسدا شديدا وهي متاحة لنا في كل الأوقات، بالإمكان أن تستقيل عثراتك وتغفر ذنوبك في كل ركعة بعد أن يقول الإمام ولا الضالين، وهذا فضل عظيم وأجر كبير ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
الوجه الثاني من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن هذه الصلاة فيها القرآن وكفى بالقرآن واعظا، هذا القرآن كلام الله فيه أوامره ونواهيه وزواجره، وفيه وعده ووعيده، وفيه إرشاده وفيه تهديده، وفيه ترغيبه وفيه ترهيبه، فمن سمعه فلم يؤمن به {فبأي حديث بعده يؤمنون}، من لم يستفد بالقرآن وعظا ورجزا لا يمكن أن ينتفع بأي شيء آخر، والصلاة فيها تلاوة القرآن فأنت تسمع هذا القرآن زاجرا فيكون زاجرا لك عن الفحشاء والمنكر وبذلك تكون الصلاة ناهية لك عن الفحشاء والمنكر.
الوجه الثالث من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن المصلين يجب عليهم أن يتناهوا عن الفحشاء والمنكر، فإذا حضرت معهم فسينهونك عما تقع فيه من المنكرات وسيرشدونك إلى ما يقربك إلى الله تعالى من أنواع المعروف، وبهذا تزول الفروق بين الناس ويؤدي بعضهم إلى بعض الحقوق، وتتأكد الصلة وتقوى المحبة فيما بينهم.
الوجه الرابع من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الإنسان بصلاته يستقيل عثراته ويخفف ذنوبه، والذنب يدعو إلى الذنب، فالسيئة تدعو إلى السيئة والحسنة تدعو إلى الحسنة، وفي كثير من الأحيان يعجل لبعض الناس جزاء سيئاتهم بالوقوع في سيئات أعظم منها، ويعجل لهم كذلك بعض ثواب حسناتهم بالتوفيق إلى حسنات أكبر منها، ومن هنا فإن الإنسان إذا خفف سيئاته فهذا مدعاة لأن يجتنب الفحشاء والمنكر، لأن الفحشاء والمنكر إنما يتجرأ عليه الإنسان بسبب تراكم الذنوب في قلبه حتى يظلم وتغلق مسام القلب عن الإيمان والخوف من الله سبحانه وتعالى، فتأتي الجراءة على الله سبحانه وتعالى، ويأتي من هذا المدخل أمن مكر الله عز وجل، فيقع الإنسان في الفحشاء والمنكر، أما إذا خفف الذنوب وأزال الصدأ عن القلوب فحينئذ سيقبل الإنسان على ما يرضي الله سبحانه وتعالى ويعرض عما لا يرضيه، فتكون الصلاة بذلك ناهية عن الفحشاء والمنكر.
الوجه الخامس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها بمثابة نهر على باب أحدكم ينغمس فيه في اليوم والليلة خمس مرات فهل ترون يبقى من درنه شيء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن هذه الصلاة نور وضياء عظيم جدا ينور الله به قلوب عباده في الدنيا وفي الآخرة، فهي في الدنيا نور وعلامة لأهلها سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، وهي في الآخرة علامة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فقد قيل له: بم تعرف أمتك يوم القيامة، فقال: إن أمتي يردون علي الحوض غرا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل، وكل هذا ساع لأن تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر.
الوجه السادس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الخشوع الذي فيها مقتض لأن يستحضر الإنسان عرضه على الباري سبحانه وتعالى، وأن يستحضر أن ملائكة يحضرون معه فيقدمون عنه التقارير في كل صباح ومساء، فيرتفعون إلى ربهم وهو أعلم، ومن شفقتهم ورحمتهم أنهم عندما يسألهم كيف تركتم عبادي فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، ومع هذا فإن التقارير التي تقدم إلى الله سبحانه وتعالى إذا استحضرها الإنسان في صلاته لا بد أن يقلع، لأن الإنسان إذا استحضر أن الملك يتقدم إلى الله بتقرير في الصباح فيقول: يا رب عبدك فلان فعل الذنب الفلاني، ثم في المساء يتقدم إليه فيقول: يا رب عبدك فلان ما زال مصرا على الذنب الذي فعل في الصباح، ثم في اليوم الذي يليه يأتي تقرير آخر يا رب عبدك فلان ما زال مصرا على هذا الذنب، وتتراكم التقارير حتى تكون مد البصر، إن الإنسان إذا لم يستحي من هذا فليفعل ما شاء، وقد بينا من قبل معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، فهذه الأوجه كانت الصلاة منها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومع ذلك فهي متضمنة لذكر الله وذكر الله أكبر، كما قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون، والصلاة مشتملة على ثلاثة أنواع من أنواع التعبدات، النوع الأول التعبدات القلبية وبدايتها بالنية، فالإنسان ينتفض من هذه الدنيا ويخرج منها مقبلا على الله سبحانه وتعالى، وعلامة نبذه للدنيا أنه إذا كبر تكبيرة الإحرام نبذ الدنيا بيديه وراء ظهره، ورفع اليدين هنا رمز لنبذ الدنيا وراء ظهره والإقبال على الله سبحانه وتعالى ولهذا يجتهد في استقبال القبلة ويجتهد في تسوية الصف لأنه قد تخلص من الدنيا وأقبل على الباري سبحانه وتعالى، ولذلك لا يمتخط ولا يتفل أمام وجهه ولا عن يمينه بل يجعل ذلك تحت رجله أو عن يساره، ثم هذه النيات مقتضية كذلك لأن يسعى الإنسان لتنميتها لأن هذه النية هي إكسير الأعمال، فهي التي تنميها بأضعاف مضاعفة، النيات التي ذكرناها في القدوم إلى المسجد ونيات سواها، ونيات في أداء الصلاة نفسها بالتقرب إلى الله بما افترضه وبمنافسة ملائكته وباتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبالتماس موعوده وبالخوف من عق
الحبيب المصطفى- مشرف 2
-
عدد المساهمات : 51
تاريخ التسجيل : 09/11/2011
بطاقة الشخصية
العب معنا: 5
رد: أركان الإسلام الجزء الأول
أساس الإسلام هي خمسة أركان أساسية يؤمن المسلم بها كلها ويعمل بها، ويظهر أهمية هذه الأركان الخمسة لتعريف المسلم في الحديث النبوي المروي عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب والذي نصه:
سمعت رسول الله يقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا.
سمعت رسول الله يقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا.
هديل هبة الرحمن- مشرف 1
-
عدد المساهمات : 173
تاريخ التسجيل : 27/10/2011
العمر : 31
بطاقة الشخصية
العب معنا: 5
مواضيع مماثلة
» أشراط الساعة الجزء الاول
» أركان الإيمان
» سعة مفهوم العبادة في الإسلام
» التقدم الذي يريده الإسلام
» واقعية الإسلام وواقع الإنسان
» أركان الإيمان
» سعة مفهوم العبادة في الإسلام
» التقدم الذي يريده الإسلام
» واقعية الإسلام وواقع الإنسان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى